أليس من الحصافة أن نستثمر في البشر بدل الحجر؟

جيل يطرح الأسئلة أكثر مما يردد الشعارات

بقلم: د. محمد السنوسي..

أمام التحولات العاصفة التي يشهدها العالم — من ثورات تكنولوجية متسارعة تعيد تعريف مفهوم العمل والإنتاج، إلى تحولات معرفية تهزّ أركان التعليم والثقافة، مرورًا بتغيّر نماذج التفكير والعمل الاستراتيجي في السياسة والاقتصاد — يجد المغرب نفسه اليوم أمام سؤال مصيري يتجاوز الأرقام والمشاريع إلى جوهر المعنى والاتجاه:

هل يكفي أن نبني الطرق والموانئ والملاعب والمدن الجديدة، إذا لم نبنِ الإنسان القادر على أن يمنحها الروح والغاية؟
هل تكفي بنية تحتية عصرية إذا ظلت البنية القيمية والفكرية هشّة؟
وهل يمكن لدولةٍ أن تنهض فعلاً، إذا لم تنهض معها نفسية المواطن وإيمانه بجدوى الفعل المشترك؟

لقد أنجز المغرب خلال العقدين الأخيرين مشاريع كبرى لا يُستهان بها: مدنٌ تتوسع، موانئ تُنافس، طرقٌ سريعة تربط الأطراف، وملاعب عالمية تُثير الإعجاب.
لكن في مقابل هذا الإبهار المادي، تتكاثر الأسئلة حول غياب الإبهار الإنساني:
فأين هو الإنسان الذي يجب أن يقف في قلب هذا البناء؟
وأين هي المدرسة التي تُنبت هذا الإنسان؟
وأين هي المنظومة التي تجعل منه فاعلًا، لا متفرّجًا في مسرح التنمية؟

فالمؤشرات الاجتماعية لا تزال تروي قصة أخرى:
تفاوتات مجالية صارخة، بطالة مقنّعة، منظومة تعليم تتعثّر، قطاع صحة يئنّ، وسياسات تشغيل لا تُقنع الشباب الذي فقد الثقة في وعود المؤسسات.
بل إنّ الأزمة لم تعد اقتصادية فحسب، بل أزمة وعيٍ ومعنى:
حين يشعر المواطن بأن الدولة تُشيّد الحجر وتنسى البشر، تتسرب من داخله قناعة صامتة بأن التنمية ليست له، بل تُقام أمامه.

اليوم، لا نواجه فقط أزمة حكامة أو فشل سياسات قطاعية؛ نحن نواجه سؤالًا فلسفيًا في عمق التنمية نفسها:
هل نريد أن نبني بلداً متقدماً في المظهر أم نريد أن نُقيم مجتمعًا راشدًا في الجوهر؟
هل التنمية مجرد بنية فوقية تُقاس بالمتر والمليار، أم هي فعل إنساني يبدأ من بناء وعي المواطن وقدرته على حمل رسالة في هذه الأرض؟

إن التحولات التي تهزّ العالم اليوم لا تنتظر المتأخرين؛ والثورات الرقمية والمعرفية لا ترحم من يظل أسير التفكير التقليدي.
غير أن المفارقة المؤلمة تكمن في أن هذا الوعي بأولوية الإنسان لم يجد طريقه بعد إلى صميم السياسات العمومية؛ فبينما استثمر المغرب في الحجر بسخاء، ظل الاستثمار في الإنسان متعثرًا، وهو ما يجعلنا أمام عنوانٍ مؤلمٍ بقدر ما هو صادق: فشل السياسات في الإنسان قبل الحجر.

فشل السياسات في الإنسان قبل الحجر

يُقال إن الأمم لا تُقاس بما تبنيه من عمران، بل بما تُشيّده من إنسان. غير أن السياسات العمومية في المغرب، على امتداد عقود، بدت وكأنها عكست هذه القاعدة رأسًا على عقب؛ إذ تمّ الاستثمار في الحجر قبل الفكر، وفي البنية قبل البنية البشرية، وفي المظهر قبل الجوهر.

تتجلّى مظاهر هذا الخلل بوضوح في القطاعات الحيوية التي تُعتبر عماد أي مشروع وطني جاد: التعليم، والصحة، والتشغيل.
ففي الوقت الذي يتسابق فيه العالم إلى تأهيل أجياله للثورات الرقمية والذكاء الاصطناعي والاقتصاد المعرفي، ما يزال نظامنا التعليمي يعيش حالة من الانفصام بين الخطاب والإصلاح.
مناهج متقادمة، مؤسسات غير منصفة في توزيع الفرص والجودة، ومدرسة لم تعد تصنع الحالمين، بل تخرّج العاطلين.
إنها أزمة لا تتعلق فقط بالموارد أو الميزانيات، بل برؤيةٍ غائبة لإنسانٍ متكامل، يكون التعليم له مشروع حياة لا مجرد وسيلة عبور نحو وظيفة مفقودة.

أما قطاع الصحة، فقد أنهكته هشاشة البنيات وغياب العدالة في الولوج إلى العلاج، وضعف التحفيز والموارد البشرية، حتى بات المرض عند الفقير امتحانًا للكرامة قبل أن يكون اختبارًا للجسد.
وفي المقابل، يعاني الشباب من بطالة ممتدة الأمد، تدفع الكثيرين إلى الهجرة أو إلى الانسحاب الصامت من الشأن العام، وكأنهم يعلنون ببرودٍ أن “البلد لم يعد لهم”.
وهنا تكمن خطورة اللحظة: حين يفقد الإنسان الثقة في جدوى الانتماء، ينهار المشروع الوطني من داخله دون ضجيج.

لقد أفرز هذا الفشل المتراكم أزمة ثقة عميقة بين المواطن ومؤسساته.
فالمواطن الذي كان يرى في الدولة حاضنًا للعدالة والفرص، أصبح اليوم يرى فيها جهازًا إداريًا بعيدًا عن واقعه اليومي.
تآكلت الثقة في الأحزاب، واهتزّ دور النقابات، وتراجعت مصداقية الخطاب العمومي، حتى باتت المؤسسات في نظر كثير من الشباب رموزًا للجمود أكثر من كونها أدوات للتغيير.

جيل “زد” — أبناء الثورة الرقمية — يعيشون اليوم على إيقاع وعي مختلف، لا يقبل بالشعارات ولا يُقنعه الخطاب الرسمي.
هؤلاء لم يعودوا يرون النضال في قاعة الحزب أو في بيان النقابة، بل في التغريدة والوسم والمبادرة الرقمية.
إنهم أبناء العالم المفتوح، يؤمنون بالفعل المباشر والتأثير السريع، ويقيسون المصداقية بالنتائج لا بالكلمات.
لكن خطورة الأمر أن هذا الجيل، الذي يُفترض أن يكون وقود المستقبل، بدأ يفقد الإيمان بالسياسة ذاتها، لأنّ السياسة في صيغتها الحالية لم تعد تعبّر عنه، ولم تتعلم بعد كيف تُصغي إلى لغته الجديدة.

إنّ فشل السياسات في الإنسان قبل الحجر لم يكن صدفةً ولا عارضًا، بل نتيجة خلل بنيوي في الرؤية التنموية التي اختزلت التقدم في مشاريع البنية التحتية، وغفلت عن أن الإنسان هو البنية التحتية لكل بناء.
ذلك أن التنمية — في جوهرها — ليست سباقًا في ارتفاع الأبراج ولا في امتداد الطرق، بل امتحانًا في عمق الوعي وقوة القيم. فحين تُبنى الجسور ولا يُبنى الإنسان، تتحوّل المشاريع إلى هياكل بلا روح.
التنمية الحقيقية تُقاس بقدرة المجتمع على إنجاب مواطنٍ يدرك أن له رسالة في الحياة، وأن خدمته لوطنه امتداد لخدمته لذاته ولأجياله المقبلة.
لكنّ أخطر ما أفرزه اختلال هذا المنطق هو ما يتجاوز الاقتصاد والسياسات إلى ما يمسّ صميم الوجدان الجمعي: تآكل الثقة، وضياع المعنى.
وهكذا، من فشل الإنسان في قلب المشروع، وُلدت أزمة الثقة… وأزمة المعنى.

أزمة الثقة… وأزمة المعنى

في لحظات التحوّل الكبرى، لا تقاس قوة الدول بصلابة مؤسساتها فقط، بل بمستوى الثقة الذي يجمع مواطنيها حول فكرة الوطن.
وحين تتآكل هذه الثقة، يبدأ المجتمع في الانزلاق البطيء نحو أخطر أنواع الأزمات: أزمة المعنى.

إنها الأزمة التي لا تُرى بالأرقام، ولكن تُحسّ في الوجدان الجماعي:
حين يفقد المواطن الإيمان بأن جهده وصوته ومشاركته يمكن أن تُحدث فرقًا، يتحول من فاعل إلى متفرّج، ومن شريك في البناء إلى مراقبٍ صامت لخيباتٍ متكررة.
وفي لحظة كهذه، لا تعود المشكلة في الفقر أو البطالة أو ضعف الخدمات، بل في انطفاء الإيمان بجدوى الفعل نفسه.

فلا تنمية بلا وعي مواطن،
ولا إصلاح بلا مشاركة،
ولا مشاركة بلا ثقة.
إنها معادلة بسيطة في ظاهرها، لكنها الركيزة الغائبة عن كثير من السياسات العمومية.

لقد أدّت عقود من الفجوة بين الخطاب والواقع إلى تآكل الرابط المعنوي بين الدولة والمجتمع.
حين يُقال للمواطن إن التعليم أولوية، بينما المدرسة العمومية تتدهور؛
وحين يُقال إن الصحة حق، بينما يُترك المريض لمصيره في ممرات المستشفيات؛
وحين يُقال إن التشغيل هدف وطني، بينما يضطر آلاف الشباب إلى الهجرة أو إلى قتل أحلامهم في طوابير الانتظار —
فإن الرسالة التي تصل إلى وعي المواطن ليست رسالة أمل، بل رسالة عجزٍ مُمأسس.

وهنا يطلّ السؤال، لا بوصفه سؤالًا سياسيًا بل سؤالًا وجوديًا:
هل يمكن أن نبني مغربًا قويًا بمواطنٍ ضعيف؟
هل تكفي الطرق السريعة والموانئ والمناطق الصناعية إن كانت المدرسة مريضة، والمستشفى منهك، والعقل الشاب مهاجرًا؟
أيمكن أن تنهض أمة فقد أبناؤها الثقة في أن الوطن يسمعهم؟

إن أزمة الثقة ليست حادثًا عابرًا، بل نتيجة طبيعية لغياب مشروع وطني جامع يمنح المواطن معنى لانخراطه ومعيارًا لكرامته.
فحين يغيب المعنى، لا تعود التنمية هدفًا مشتركًا، بل مجرّد خطاب رسمي يتكرر بلا أثر.
وحين تستعيد الدولة ثقة المواطن، تستعيد في الوقت ذاته طاقته الكامنة، وخياله، واستعداده لأن يكون شريكًا لا متفرّجًا.

وهنا، ومع تحوّل المزاج الاجتماعي وتبدّل وعي الأجيال، تبرز ملامح مرحلة جديدة تفرض على الجميع — دولةً ونخبًا ومجتمعًا — إعادة طرح الأسئلة من جديد: كيف نفكر؟ كيف نشارك؟ وكيف نبني الثقة والمعنى في زمن جيلٍ مختلف؟
من هنا تبدأ حكاية بلورة رؤية جديدة لبناء الانسان.

رؤية جديدة: الإنسان أولاً، لا أخيراً

آن الأوان لإعادة التفكير في النموذج التنموي المغربي على قاعدة جديدة، أكثر صلابة وعمقًا: الإنسان أولاً، لا أخيراً. فالاستثمار في المواطن ليس رفاهية، بل استثمار في المستقبل نفسه، والمستقبل لا يتحقق إلا ببناء إنسان رسالي، واعٍ بقيمه، مدركًا لرسالته في الحياة، وقادرًا على الإسهام الفعلي في خدمة وطنه، وفي تعزيز ذاته، وفي نقل الإرث للأجيال المقبلة.
إن هذا المفهوم يضع الإنسان في قلب المشروع الوطني، ويقلب المعادلة التقليدية التي اعتبرت الحجر والبنية التحتية رأس الهرم. فالمدن الجديدة والطرق السريعة والموانئ والمشاريع الكبرى لا معنى لها إن بقي الإنسان بلا كفاءة، بلا وعي، وبلا شعور بالانتماء والمسؤولية.

تحقيق هذه الرؤية يتطلب ثورة تربوية حقيقية، تجعل من التعليم منصة لصناعة المواطن الرسالي، لا مجرد ناقل للمعلومات. التعليم هنا يجب أن يجمع بين القيم الأساسية والابتكار والتفكير النقدي، ويمنح الطلاب أدوات لفهم العالم وتحويل المعرفة إلى فعل مسؤول. ولا يقل عن ذلك قطاع الصحة، الذي ينبغي أن يحمي كرامة المواطن ويضمن له وصولًا عادلاً للخدمات، بعيدًا عن الانتقاء أو التمييز، بحيث يصبح الإنسان محور الاهتمام لا مجرد مستهلك للخدمات.

أما الاقتصاد، فيجب أن يتحول من سياسة دعم المشاريع الكبرى لأصحاب النفوذ، إلى سياسة تفتح الفرص أمام الكفاءات، وتشجع الشباب على الإبداع والمبادرة، وتكافئ الجهد والابتكار بدل المحسوبية. ويجب أن تتكامل هذه السياسات مع عدالة مجالية واجتماعية شاملة، لا تقتصر على المدن الكبرى، بل تمتد لتشمل البوادي، والقرى، والمناطق الجبلية، بحيث تتحول هذه الأماكن إلى مراكز جذب وابتكار تخلق فرصًا اقتصادية واجتماعية متساوية لكل المغاربة.

إن بناء مغرب الغد لا يبدأ بالحجر وحده، بل يبدأ بالإنسان الذي يعرف لماذا يعيش، ولمن يعمل، وما هي رسالته في الوجود. فهو الذي يعطي المعنى لكل مشروع، ويضخ الحياة في المؤسسات، ويحول التنمية من مجرد هندسة شكلية إلى قوة فاعلة مستدامة، قادرة على الصمود أمام التحديات المتسارعة للتكنولوجيا، والتحولات الاجتماعية، والثورات المعرفية التي يشهدها العالم.

فالإنسان، بوعيه وقيمه ورساليته، هو الضمان الحقيقي لاستمرارية الدولة، ولنجاح أي مشروع تنموي أو اقتصادي، ولتحويل المغرب من مجرد خارطة مشاريع ملموسة إلى وطن يعيش فيه كل فرد بقيمة وأثر ومعنى.

جيل جديد وأسئلة جديدة

لقد دخل المغرب، والعالم بأسره، مرحلةً جديدة لا يمكن فهمها بالذهنية القديمة.
جيل “زد” — أبناء الإنترنت والذكاء الاصطناعي، أبناء العالم المفتوح على اللانهاية — لا يشبه من سبقهم لا في وعيه ولا في طريقته في رؤية السلطة، والوطن، والمستقبل.
إنه جيل يطرح الأسئلة أكثر مما يردد الشعارات، ويبحث عن الحقيقة لا عن الخطاب، ويقيس المصداقية بالفعل لا بالقول.

في الماضي، كانت الأجيال تُقنع بالشعار وبالرمز.
أما اليوم، فجيل “زد” يريد أن يرى أثر المواطنة في حياته اليومية: مدرسةً تفتح الأفق لا تُغلقه، مستشفى يحفظ الكرامة لا يُهينها، وفرصة عمل تُكافئ الكفاءة لا الولاء.
إنه جيل لا يثق بسهولة، لكنه حين يثق، يمنح الولاء الكامل للفكرة الصادقة والمشروع الحقيقي.

وهنا تكمن المفارقة:
فبينما يراه البعض جيلًا متمرّدًا أو غير منضبط، هو في الواقع جيل حساس جدًا للصدق والعدالة والمعنى.
إنه لا يثور على الوطن، بل على الطريقة التي يُدار بها الوطن.
ولا يرفض القيم، بل يبحث عن قيمٍ يعيشها لا يُملى عليه ترديدها.

إنّ الطاقة التي يحملها هذا الجيل — في الإبداع، في المبادرة، في الجرأة على السؤال — قد تكون أكبر ثروة يمتلكها المغرب اليوم.
لكنها، إن لم تجد مشروعًا وطنيًا صادقًا يستوعبها ويوجهها، قد تتحول إلى طاقة قلقٍ وسخطٍ وتيهٍ جماعي.
ولهذا، فإنّ الرهان ليس في تهدئة هذا الجيل أو احتوائه، بل في إشراكه، في أن يشعر أنه صاحب مصلحةٍ وصاحب صوتٍ وصاحب مسؤولية في صياغة القرار الوطني.

وهذا يتطلب ثورة تربوية وقيمية تبدأ من المدرسة وتصل إلى الفضاء الرقمي، تمرّ عبر مؤسساتٍ وسيطة — أحزاب، نقابات، جمعيات، جامعات — تُعيد بناء جسور الثقة بدل أن تكون جدران عزلٍ بين المواطن والدولة.

فالمطلوب اليوم تعبئة شاملة تبدأ من الدولة وتنتهي بالمجتمع كله، مرورًا بالمؤسسات الوسيطة التي لم يعد مقبولًا أن تظل حبيسة أنماطها القديمة في التواصل والعمل.
إنها مساءلة تاريخية وأخلاقية لكل من يحتكر التمثيل دون تجديد، أو يمارس السياسة دون رؤية، أو يخاطب الشباب بلغةٍ لم تعد تُقنع أحدًا.

لقد ولى زمن الوصاية، وحان وقت الشراكة الفعلية. جيل “زد” لم يعد ينتظر من الدولة أن تمنحه دورًا استثنائيًا، بل يطالب باعتراف الدولة بدوره الطبيعي كشريك في صناعة المصير. فرغم كل التحديات، يحمل هذا الجيل طاقة هائلة للإبداع والتجديد، ولديه القدرة على دفع المجتمع نحو نموذج جديد من المواطنة الفاعلة، إذا ما توفرت له البيئة الصحيحة، والمشروع الوطني الصادق، والمؤسسات التي تثق به وتشركه.

الرهان على المستقبل لا يكمن في تهدئة هذا الجيل أو احتوائه، بل في إشراكه كشريك حقيقي في البناء وصانع للقرار، من خلال تربية جديدة ترتكز على القيم والمسؤولية والرسالة، لا على الخوف أو التبعية او الاستلاب. وهكذا، يتحول هذا الجيل، مع الأجيال السابقة واللاحقة، إلى قدرات رسالية وواعية تشكل محور عقد اجتماعي جديد، تتكامل فيه الدولة والمجتمع المدني والمؤسسات الوسيطة، لإعادة بناء الثقة والمعنى، ووضع المغرب على مسار تنموي يوازن بين الحجر والإنسان، بين المشاريع الكبرى والوعي الفردي والجماعي، بين البوادي والقرى ومدن المركز.

الاستثمار في هذا الجيل وفي الإنسان هو الاستثمار الأذكى والأكثر استدامة، وهو الضمان الحقيقي لمغرب قوي، عادل، ومبتكر. وهنا يكمن الاختبار الحقيقي للمجتمع المغربي: هل سنتمكن من الانتقال من ثقافة التسيير إلى ثقافة الإشراك، ومن سياسة التهدئة إلى سياسة الإلهام؟

خاتمة

في النهاية، يتضح أن المغرب لا يحتاج اليوم إلى مزيد من الأبراج الشاهقة أو الطرق المعبدة فحسب، بل إلى إنسان قادر على منح هذه المشاريع معنى، وروحًا، واتجاهًا. الإنسان الرسالي، الواعي والملتزم، الذي يعرف قيمته، ويفهم رسالته، ويشارك بفعالية في صنع القرار، هو الضمان الحقيقي لاستدامة التنمية، ولصمود الوطن أمام تحديات العصر.

الجيل الجديد، بقواه وطاقاته وأفكاره، ليس تهديدًا بل فرصة لا تعوض، وإذا ما احتُوِيَ وأُشرك في بناء المستقبل، سيصبح شريكًا أساسيًا في صناعة مغرب جديد، متماسك، عادل، ومبتكر. إن الثقة ليست شعارًا، والمعنى لا يُمنح من الأعلى، بل يُبنى من التقاء المواطن المسؤول بالدولة الصادقة، ومن شعوره بأن جهده جزء من مشروع أكبر يُسمى الوطن.

لذلك، فإن الرهان الحقيقي ليس على الحجر، بل على الإنسان؛ على المواطن الذي يحمل رسالة، وعلى المؤسسات التي تحمي هذه الرسالة وتُنمّيها، وعلى جيل جديد يتفاعل، يسائل، ويبتكر. فقط حينها، سيصبح كل مشروع بنية تحتية وكل خطة تنموية قوة حية ذات معنى وفاعلية حقيقية، ويصبح المغرب ليس مجرد خارطة مشاريع ملموسة، بل وطنًا يعيش فيه كل فرد بقيمة، وأثر، ورسالة.

فالاستثمار في الإنسان هو الاستثمار في المستقبل، وفي القيم، وفي المعنى… وهو الخيار الأذكى والأكثر استدامة، والضمان الأوحد لمغرب قادر على الصمود والإبداع والتحول، مغرب تتكامل فيه كل طاقات الوطن، من الحجر إلى الإنسان، ومن الجيل الجديد إلى كل أركان المجتمع.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى