“ما بعد توقيع الاتفاق : معركة الفلسطينيين الكبرى نحو الفعل”

أثبتت المقاومة الفلسطينية أن الوعي يمكن أن يهزم السلاح

بقلم: د. محمد السنوسي..

مقدمة

في اللحظات التي تعقب النزاعات الكبرى، لا يكون التحدي الحقيقي في الوصول إلى اتفاق، بل في ما يليه: كيف يُنفَّذ، وكيف يُراقَب، ومن يملك القدرة على فرض احترامه. فالاتفاقات في جوهرها ليست نهاية المعركة، بل استمرارها بأدوات أخرى — سياسية ودبلوماسية واستراتيجية.

غير أن ما يحدث اليوم في الساحة الفلسطينية لا يمكن قراءته كحدث تفاوضي معزول، بل هو حصيلة مباشرة لقوة المقاومة وصمود الشعب الفلسطيني، خصوصًا في غزة، التي تحولت من مجرد رقعة جغرافية محاصرة إلى رمز تاريخي لإرادة البقاء وممانعة الإبادة.
فالاتفاق الجاري اليوم لم يأتِ من موقع القوة الإسرائيلية ولا من ضغط الحلفاء الغربيين، بل من معادلة جديدة فرضتها المقاومة بثمنٍ باهظ من الدماء والدمار، حين فشلت كل المخططات الهادفة إلى تهجير سكان غزة أو إخضاعهم لحرب استنزاف طويلة تُفرغ الأرض من أهلها كما حدث في نكبة 1948.

لقد أعادت غزة — رغم الحصار والتدمير — صياغة الوعي الجمعي الفلسطيني والعربي والدولي، وأجبرت العالم على الاعتراف بأن القوة على الأرض لا تُقاس فقط بالتفوق العسكري، بل بقدرة الشعوب على الصمود في وجه محاولات الإبادة والتجويع والتطويع.
وهذا ما يجعل من الاتفاق الراهن لحظة مفصلية في تاريخ الصراع: فهو ليس منحة من طرف المنتصر، بل نتيجة مباشرة لتوازن ردع جديد ولإصرار الفلسطينيين على البقاء فوق أرضهم رغم كل شيء.

لكن، كما علمتنا التجربة الفلسطينية الطويلة، فإن التحدي الأكبر يبدأ بعد الاتفاق.
فالتاريخ يعيد نفسه حين تتحول الهدن إلى فخاخ سياسية، وحين تُستخدم بنود السلام لتكريس واقع الاحتلال بدل تفكيكه. وهنا يطرح السؤال نفسه بإلحاح:
كيف يمكن للفلسطينيين أن يحافظوا على منسوب القوة الذي أنتج الاتفاق؟ وكيف يترجمون صمودهم الميداني إلى نفوذ سياسي واستراتيجي؟
ثم، ماذا لو أخلّت إسرائيل بالتزاماتها بعد أن تحقق هدفها المباشر في استعادة الرهائن؟
هل يمتلك الفلسطينيون، ومعهم حلفاؤهم الإقليميون، القدرة على فرض آلية رقابة ومحاسبة تجعل خرق الاتفاق مكلفًا سياسيًا وأخلاقيًا لإسرائيل؟ أم أننا سنكون أمام إعادة إنتاج لسيناريوهات سابقة من المراوغة والتنصل؟

إن الإجابة على هذه الأسئلة لا يمكن أن تُفهم خارج السياق الإقليمي والدولي الراهن. فالعالم اليوم يعيش حالة تحول في موازين القوة والمعايير؛ لم تعد إسرائيل قادرة على التحكم الكامل في سردية الصراع كما كانت، ولم تعد واشنطن تملك التفرد بصياغة الحلول.
تتعدد اليوم القوى التي تسعى إلى التأثير — من دول إقليمية تحاول إعادة رسم خرائط النفوذ، إلى قوى دولية كروسيا والصين تبحث عن أدوار جديدة في إدارة الأزمات العالمية. وسط هذا المشهد المتشابك، تصبح القضية الفلسطينية اختبارًا عالميًا لمصداقية العدالة الدولية ولمستقبل الشرعية في النظام العالمي الجديد.

من هنا، لا يمكن النظر إلى الاتفاق إلا بوصفه نتاجًا لقوة الفعل الفلسطيني أولًا، وكنقطة انطلاق لاختبار جديد في ميدان السياسة والمجتمع والمقاومة معًا.
فغزة التي رفضت السقوط، وأحبطت مشروع التهجير، وأعادت تعريف معنى الكرامة تحت النار، لا تخرج من هذه الحرب كما دخلتها. إنها تدخل مرحلة جديدة — مرحلة تتجاوز الصمود العسكري إلى التمكين الاستراتيجي، حيث يتحول الوعي إلى سلاح، والسياسة إلى فعل مدروس، والمقاومة إلى مشروع وطني متكامل لبناء المستقبل.

وفي هذا السياق، يبرز سؤال جوهري يتقدّم على كل الأسئلة الأخرى: كيف يمكن للفلسطينيين أن يحوّلوا الاتفاق إلى أداة تأثير حقيقي، لا إلى استراحة محارب؟

أولاً: من التأثير إلى الفعل – أدوات الفلسطينيين في تثبيت الاتفاق

في الظاهر، يبدو الاتفاق محطة نحو التهدئة، لكن خلف العتبة تقف نوايا خفية ولاعبون كثر، يديرون خيوط المشهد من وراء الستار.
فبين من يريد إنهاء الحرب حفاظًا على صورته الدولية، ومن يسعى إلى منح إسرائيل فرصةً لاستعادة أنفاسها بعد مأزق أخلاقي وسياسي غير مسبوق، يجد الفلسطينيون أنفسهم أمام مشهد ملغوم بالتناقضات:
اتفاق يُفترض أن يوقف النار، لكنه قد يُستخدم في الوقت نفسه لإعادة ترتيب موازين القوة على حسابهم.

هنا، يصبح السؤال الجوهري:
كيف يمكن للفلسطينيين التأثير في مسار الاتفاق، وضمان ألا يتحول إلى فخ سياسي جديد يجمّد المقاومة ويُعيد إنتاج الاحتلال في شكلٍ آخر؟

الإجابة لا تكمن في النصوص المكتوبة على الورق، بل في القدرة على تحويل الاتفاق إلى فعلٍ سيادي واعٍ — أي إلى أداة تُحصّن ما تحقّق ميدانيًا، بدل أن تفرغه من معناه.
ولتحقيق ذلك، لا بد من هندسة استراتيجية فلسطينية مركّبة، ترتكز على أربعة محاور مترابطة:

1️ الوحدة الوطنية كدرع سياسي واستراتيجي

إن أول وأخطر ما تراهن عليه الأطراف الخفية هو تفكيك الموقف الفلسطيني من الداخل.
لذلك، فإن أي اتفاق سيبقى هشًّا إن لم يُبنَ على أرضية وحدة وطنية صلبة، تُغلق منافذ الاختراق، وتوحّد الرؤية السياسية بين الفصائل والسلطة والمجتمع المدني.
الوحدة لا تعني إلغاء الاختلاف، بل تنظيمه في عقد وطني تفاوضي يوزع الأدوار: من يقاوم، من يتفاوض، ومن يراقب ويضمن التوازن بين الميدان والسياسة.

هذه الوحدة هي وحدها الكفيلة بتحويل أي اتفاق من “هدنة مؤقتة” إلى مرحلة انتقالية نحو إعادة تعريف المشروع الوطني الفلسطيني.

2️ الشرعية الدولية كرافعة قانونية وردع أخلاقي

رغم محدودية فعالية المؤسسات الدولية، إلا أن استخدامها الذكي يمكن أن يغيّر قواعد اللعبة.
فمن خلال تفعيل آليات الأمم المتحدة، ومجلس حقوق الإنسان، والمحكمة الجنائية الدولية، يمكن للفلسطينيين تدويل الاتفاق وتحويله إلى التزام قانوني يخضع للرقابة الدولية.
هذا المسار لا يمنحهم حماية رمزية فقط، بل يفرض كلفة سياسية وقانونية على أي خرق إسرائيلي.
كما يمكن إشراك الأطراف الوسيطة كضامنين رسميين للتنفيذ، ما يوسّع دائرة المساءلة ويُقيّد هامش المناورة الإسرائيلية.

3️ الإعلام والتأثير الرمزي : معركة الرواية لا تقل أهمية عن الميدان

لقد أثبتت التجربة أن إسرائيل تخسر الحرب الإعلامية كلما كُشف وجهها الحقيقي أمام العالم.
ولذلك، فإن أحد أخطر أشكال “الخرق” الذي يجب التصدي له هو إعادة إنتاج الرواية الإسرائيلية بلبوسٍ إنساني أو دبلوماسي.
على الفلسطينيين والعرب أن يجعلوا من الإعلام — الرقمي والدولي — أداة تأثير مستدامة:
رصدٌ وتوثيقٌ للخروقات، سردٌ إنساني لمأساة المدنيين، واستثمارٌ ذكي لشبكات التأثير العالمية لبناء رأي عام دولي رادع.
في زمن الصورة والبيانات، تتحول الرواية إلى سلاح استراتيجي لا يقل فاعلية عن البندقية.

4️ الشراكة القانونية والمجتمعية : من التفاوض إلى الرقابة الشعبية

حتى لا يُترك الاتفاق في يد السياسيين وحدهم، يجب إشراك مؤسسات المجتمع المدني، والنخب القانونية، والخبراء المستقلين في عملية المراقبة والتنفيذ.
تُنشأ لهذا الغرض لجنة وطنية مختلطة — قانونية ومجتمعية — تُتابع تطبيق البنود، وتصدر تقارير دورية توثّق الالتزامات والانتهاكات.
بهذه الطريقة، يتحول الاتفاق من وثيقة نخبوية مغلقة إلى عملية مجتمعية شاملة، تُرسّخ الشفافية، وتحافظ على الزخم الشعبي الذي أنتجه نضال الفلسطينيين في الميدان.

خاتمة: من إدارة التهدئة إلى بناء السيادة

إن التحدي الحقيقي لا يكمن في التوقيع على الاتفاق، بل في إدارة ما بعده.
فكل اتفاق يحمل في طياته احتمالين: أن يكون بوابة لتثبيت الإنجاز، أو فخًا لامتصاصه.
ولأن الفلسطينيين هذه المرة فرضوا الاتفاق بقوة الصمود لا بالضعف السياسي، فإن مسؤوليتهم التاريخية اليوم هي في تحويل هذا الصمود إلى منظومة وعي وفعل واستراتيجية، تقيهم الوقوع في لعبة التهدئة مقابل الخسارة التدريجية.

إن ما بين يدي الفلسطينيين ليس مجرد اتفاق، بل فرصة لإعادة تعريف موازين القوة في المنطقة بأسرها — شرط أن يدركوا أن ما يُدار في الخفاء لا يُواجه إلا بعقلٍ استراتيجي مستنير، ووحدةٍ سياسية متماسكة، ووعيٍ شعبي لا يسمح بأن تُسرق التضحيات باسم “السلام”.
وهذا يقودنا إلى سؤال جوهري: ما العمل، في حال خرق الاتفاق؟

ثانيًا: في حال خرق الاتفاق — ما العمل؟

حين يُختبر الاتفاق: ماذا على الفلسطينيين فعله إذا خرقت إسرائيل التزاماتها بعد تحرير الرهائن؟

التاريخ السياسي للصراع الفلسطيني–الإسرائيلي يُعلّمنا أن الخرق جزء من العقيدة الإسرائيلية، لا استثناء عارض.
فمن اتفاق أوسلو إلى تفاهمات الهدنة في غزة، كانت إسرائيل تستخدم كل اتفاق مؤقت كجسر لإعادة ترتيب أدوات السيطرة: قليل من التهدئة لإعادة التسليح، وقليل من المراوغة لكسب الوقت والشرعية.
لذلك، فإن أي “اتفاق جديد” لا يمكن التعامل معه كمكسب نهائي، بل كـ حالة اختبار للإرادات — اختبار لمدى صلابة الموقف الفلسطيني وقدرته على تحويل الخرق إلى ورقة ضغط، لا إلى نكسة جديدة.

الفرضية الواقعية هي أن إسرائيل قد تخرق الاتفاق بعد تحرير الرهائن. والسؤال: ما الذي يمكن للفلسطينيين فعله حينها، دون أن يخسروا ثمار صمودهم أو يُستدرجوا إلى فخ الفوضى؟
الإجابة تقتضي بناء استراتيجية متعددة المستويات، تتعامل مع الخرق ليس كردّ فعل غاضب، بل كفرصة لإعادة تعريف قواعد اللعبة.

1️ من رد الفعل إلى الفعل المنظّم

الخطأ التاريخي الذي وقعت فيه القوى الفلسطينية سابقًا كان الاستجابة الانفعالية للخرق الإسرائيلي.
في الاتفاقات المقبلة، يجب تحويل منطق التعامل من “الردّ على الخرق” إلى “إدارة الخرق”.
أي امتلاك خطة مسبقة، معدّة بدقة، تحدد ما يجب فعله في أول ساعة من الخرق: من يتحدث؟ من يوثّق؟ من يتحرك دبلوماسيًا؟ من يضغط ميدانيًا؟
التحرك المنظم يضمن أن يتحول الخرق إلى حدث مكشوف ومُكلف لإسرائيل بدل أن يكون مدخلاً للفوضى أو لتبرير العدوان.

2️ تفعيل المسار القانوني الدولي فورًا

ينبغي أن تكون اللجنة القانونية الفلسطينية–الدولية جاهزة منذ الآن، لا بعد وقوع الخرق.
بمجرد تسجيل أول خرق، يجب تقديم ملف موثق إلى المحكمة الجنائية الدولية ومجلس حقوق الإنسان والأمم المتحدة، مع حملات ضغط دبلوماسي منسقة مع الدول الداعمة.
إن التوثيق القانوني المبكر يمنح الفلسطينيين تفوقًا استراتيجيًا: فهو يجرّد إسرائيل من شرعية “الردّ الوقائي” التي طالما استخدمتها ذريعة لتصعيد جديد.
بهذه الطريقة، يتحول كل خرق إلى ملف إدانة دولي متراكم، يضغط على إسرائيل سياسياً وأخلاقياً في كل منبر عالمي.

3️ المستوى الشعبي والإعلامي : إدارة الغضب لا تفجيره

عند وقوع خرق، يسهل لإسرائيل أن تراهن على ردود فعل غير منضبطة تُعيد إنتاج الفوضى.
لكن الذكاء الاستراتيجي يقتضي أن يتحول الغضب الشعبي إلى قوة تعبئة منظمة، تُدار بخطاب موحّد ورسالة واضحة للعالم.
في هذه اللحظة، لا بد من إطلاق حملة إعلامية عالمية مهنية — تستند إلى الوقائع والبيانات والصور الموثقة — تُظهر إسرائيل كطرف ناقض للاتفاق، وتُعيد تسليط الضوء على مأساة غزة في إطار قانوني وإنساني.
فالصورة المدروسة قد تُحدث في الرأي العام الدولي ما لا تفعله البنود القانونية.

4️ بناء شبكة تحالفات ضاغطة

في لحظة الخرق، يحتاج الفلسطينيون إلى دائرة دعم دولي وإقليمي متماسكة.
التحرك يجب ألا يكون أحاديًا؛ بل عبر تعبئة محور دعم دولي يضم دولاً ومنظمات لا تكتفي بالإدانة، بل تمارس ضغطًا فعليًا على إسرائيل — اقتصاديًا، إعلاميًا، أو دبلوماسيًا.
من هنا تبرز أهمية العلاقات الذكية مع قوى الجنوب العالمي، ومع حركات المجتمع المدني في الغرب، التي باتت أكثر وعيًا بانحراف الخطاب الإسرائيلي.
كل خرق إسرائيلي يمكن تحويله إلى مناسبة لتعزيز عزلة إسرائيل الدولية، بدل أن يكون مناسبة لتبرير عدوانها.

5️ إعادة تعريف الهدوء : من هدنة إلى توازن ردع

على الفلسطينيين أن يضعوا في اعتبارهم أن الهدوء ليس هدية من إسرائيل، بل نتيجة لمعادلة الردع التي فرضها صمودهم.
في حال الخرق، يجب الردّ بحسابات دقيقة، لا لإعادة التصعيد بل لترميم الردع.
كل فعل ميداني يجب أن يُفهم كرسالة استراتيجية، تُعيد تثبيت مبدأ أن الأمن لا يتحقق إلا بالاحترام المتبادل للاتفاق، لا بالهيمنة الأحادية.
وهذا يستدعي تنسيقًا محكمًا بين القيادة السياسية، والمقاومة الميدانية، والأجهزة الدبلوماسية والإعلامية، في إطار غرفة قيادة استراتيجية موحدة.

6️ تحويل الخرق إلى لحظة وعي سياسي

في كل خرق إسرائيلي فرصة لتحصين الوعي الفلسطيني من جديد.
فالتاريخ علم الفلسطينيين أن إسرائيل لا تخاف من البنود، بل من الوعي الذي يجعل كل بندٍ محطّ مساءلة.
لذلك، يجب أن يُستثمر كل انتهاك إسرائيلي في بناء خطاب وطني جديد، يربط بين الميدان والسياسة والمجتمع، ويُعيد الثقة إلى الذات الجماعية الفلسطينية، بعيدًا عن ردود الفعل المؤقتة.
إن أخطر ما يمكن أن تفعله إسرائيل هو أن تُضعف الإرادة الفلسطينية عبر الإنهاك؛ وأذكى ما يمكن أن يفعله الفلسطينيون هو أن يحوّلوا الإنهاك إلى وعيٍ وتماسكٍ أكبر.

7️⃣ تحصين درع المقاومة المسلحة بعدم الرضوخ لفخ نزع السلاح
المقاومة الفلسطينية ليست مجرد رد فعل، بل هي عنصر أساسي في معادلة القوة. أي محاولة إسرائيلية لنزع السلاح هي فخ يهدف إلى تفكيك القدرة الدفاعية وتحجيم الإرادة الوطنية.
لذلك، يجب أن تُصان المقاومة المسلحة كحق مشروع للدفاع عن الشعب، مع تعزيز شرعيتها السياسية والأخلاقية أمام المجتمع الدولي والوعي الشعبي الداخلي.
الفلسطينيون مطالبون باليقظة المستمرة، وعدم الانجرار وراء وعود زائفة أو تفاوضات تُضعف الجبهة الداخلية. قوة الشعب تقاس بمدى التزامه بالخط الأحمر للمقاومة، وبقدرته على مواجهة التحديات دون التفريط في أدوات دفاعه الأساسية.
إن الحفاظ على درع المقاومة ليس خيارًا، بل ضرورة استراتيجية لضمان أن تبقى إرادة الفلسطينيين راسخة، وأن يُحوَّل أي تهديد لنزع السلاح إلى فرصة لتعزيز الوحدة والتصميم الوطني.

في نهاية المطاف، لا يمكن لأي اتفاق أن يصمد إن لم يُدار بعقل استراتيجي يفهم أن التهدئة جزء من الصراع، لا نهايته.
إن الخرق الإسرائيلي، مهما كان شكله، يجب أن يُقرأ لا كفشل للاتفاق، بل كدليل إضافي على الحاجة إلى إدارة جديدة للمرحلة — إدارة تجعل من المقاومة السياسية والإعلامية والقانونية امتدادًا عضويًا للمقاومة الميدانية.
هكذا فقط يمكن للفلسطينيين أن يحولوا كل خرق إلى رافعة وعي وسيادة، وأن يكتبوا بأيديهم معنى جديدًا للنصر:
نصر لا يُقاس بما يُحرر من رهائن، بل بما يُحرر من وعي، ومن هيمنة، ومن استلابٍ سياسي طال أمده.

خاتمة: من ردّ الفعل إلى الفعل الواعي — نحو هندسة الوعي والسيادة

ليس التحدي الحقيقي أمام الفلسطينيين في توقيع اتفاق أو نيله، بل في تحويل الاتفاق إلى أداة سيادة ووعي، إلى مساحة جديدة يُعاد فيها تعريف القوة لا بوصفها عسكرية فقط، بل كمزيج من الوعي والإرادة والتنظيم.
ففي عالم ما بعد الحرب، من يمتلك القدرة على إدارة السردية هو من ينتصر فعلاً، لا من يوقّع الوثائق.

إدارة ما بعد الاتفاق هي فنّ تحويل الهدوء إلى طاقة استراتيجية، لا إلى استرخاء.
إنها لحظة اختبار للعقل الجمعي الفلسطيني: هل سيكتفي بالاحتفال الرمزي بالاتفاق، أم سيحوّله إلى رافعة لترميم الثقة الوطنية، وإعادة بناء المشروع الفلسطيني على أسس الوحدة، والمشروعية، والوعي بالممكن؟

السياسة في هذا السياق ليست مجرد فن الصبر، بل فن المراكمة الذكية — مراكمة المواقف الصغيرة لبناء سردية كبيرة، ومراكمة التفاصيل القانونية لتشييد درعٍ أخلاقي وسياسي يحصّن الحق الفلسطيني من التآكل.
ففي زمن تُدار فيه الصراعات بوسائل ناعمة: الإعلام، القانون، الصورة، والرأي العام، يصبح الفعل الواعي هو السلاح الأصدق.

لقد أثبتت المقاومة الفلسطينية أن الوعي يمكن أن يهزم السلاح، وأن الصمود الميداني حين يُترجم إلى مشروع سياسي منظم، يصبح أداة لإعادة تشكيل المعادلات الإقليمية والدولية.
ومن هنا، فإن المعركة المقبلة ليست معركة سلاح أو اتفاق، بل معركة إدارة المعنى: كيف يمكن تحويل كل خرق إسرائيلي إلى فضيحة أخلاقية، وكل تنازل مؤقت إلى خطوة محسوبة في طريق التحرر الطويل.

إن إسرائيل تراهن على تفكك الوعي الفلسطيني، وعلى الإنهاك الذي يصيب الأمم بعد الحروب الطويلة.
لكن الرهان الفلسطيني الحقيقي يجب أن يكون على الوعي والوحدة والعمل المؤسسي المنظم — على تحويل التجربة المريرة لغزة إلى مدرسة في الوعي الاستراتيجي والكرامة الوطنية.

في النهاية، القوة لم تعد في من يملك السلاح فقط، بل في من يملك الرؤية، والمشروعية، والقدرة على تحويل الحدث إلى تاريخ.
وعندما يستطيع الفلسطينيون أن يحوّلوا الاتفاق من نصٍّ مكتوب إلى فعلٍ واعٍ ومراقبٍ ومؤطرٍ بالمساءلة، فإنهم لا يثبتون فقط قدرتهم على الصمود، بل على صناعة التاريخ.
وهكذا يتحول الاتفاق من مجرد هدنة إلى مرحلة وعي جديدة، تضع الأساس لمشروع سيادة حقيقي — مشروعٍ يحرر الفلسطينيين لا من الاحتلال وحده، بل من تبعية الوعي لردّ الفعل، نحو وعيٍ يُنتج الفعل ويقوده.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى