الطوفان الإنساني الجديد: هل يعيد العالم اكتشاف ضميره عبر غزة؟

بقلم: د. محمد السنوسي

في غزة اليوم، لا نتحدث عن حرب عابرة أو أزمة عابرة، بل عن مفترق تاريخي تتقاطع فيه الجغرافيا مع الأخلاق، والسياسة مع مصير البشر. مدينة محاصرة، تحولت كل زاوية فيها إلى جرح مفتوح، وكل شارع إلى مرآة للدمار والخراب، كل مبنى يقف شاهداً على مأساة لم تعد الكلمات تكفي لوصفها. شعب يُجبر على العيش تحت حصار يقتلع الحياة من بين يديه، يتعرض للتجويع البطيء والتهجير القسري، بينما النظام الدولي يقف في الغالب عاجزاً أو متواطئاً، مكشوفاً أمام اختبار صار فيه الصمت جريمة، والشعارات مجرد رماد لا يحمي أحداً. غزة اليوم ليست مجرد مدينة؛ إنها مرآة الإنسان أمام ضميره، لوحة كاشفة لأعمق إخفاقات الحضارة في حماية أبسط حقوق الحياة.                          

لكن وسط هذا الركام، ارتفع صوت آخر لم يكن في الحسبان: موجة عالمية من الغضب الأخلاقي. ملايين خرجوا في شوارع العواصم الغربية والشرقية، من لندن وباريس ونيويورك، إلى جاكرتا وكيب تاون وبوغوتا، ليقولوا إن الدم الفلسطيني ليس أقل قيمة من أي دم آخر، وإن العدالة لا يمكن أن تظل انتقائية تُطبّق في مكان وتُعطَّل في آخر. هذه الانتفاضة العالمية، التي تتجاوز الأيديولوجيا والسياسة، تمثل أول ملامح طوفان إنساني جديد، يعيد تعريف العلاقة بين الشعوب والحكومات، بين الضمير والقوة، بين القيم المعلنة والممارسة الواقعية.

لقد اعتاد العالم منذ عقود أن ينظر إلى فلسطين باعتبارها “نزاعاً إقليمياً” معقداً أو “ملفاً سياسياً” مستعصياً. غير أن غزة اليوم حوّلت القضية إلى اختبار كوني للإنسانية: إمّا أن تنحاز البشرية إلى حق الضحية في الحياة والكرامة، أو أن تعلن إفلاسها الأخلاقي الكامل. ومن هنا ينبع السؤال الجوهري: هل ما نراه أمام أعيننا مجرد موجة عاطفية مؤقتة، أم هو بالفعل بداية تحول عميق سيعيد الاعتبار للقيم الكونية التي لوثتها المصالح والتحالفات لعقود طويلة؟

من غزة إلى العالم: المأساة التي كسرت الصمت

المجازر في غزة لم تعد مجرد ملف سياسي أو خبر عابر يطوى في نشرات الأخبار. إنها اللحظة التي كسرت الصمت، اللحظة التي فضحت زيف الروايات الرسمية التي لطالما سعت لتبرير الاحتلال وعدوانه. صور الأطفال تحت الأنقاض، النساء المشردات، والشباب الذين يودّعون أحبتهم، لم تعد مجرد صور؛ تحولت إلى أيقونات رقمية تحاصر الضمير العالمي، تُعرض على الشاشات والهواتف في كل بيت، وتمنع البشرية من الاختباء وراء تبريرات القوة والذرائع الباردة. فجأة، لم يعد الفلسطيني “قضية سياسية” يُساوَم عليها في غرف مغلقة، بل صار رمزًا إنسانيًا يقف في وجه العالم كله، ويمتحن ما تبقى من إنسانيتنا.

الشارع العالمي اهتز. لندن، نيويورك، باريس، مدريد، برلين، روما… مدن اعتادت الصمت أمام جرائم إسرائيل، خرجت اليوم بمظاهرات حاشدة لا تكتفي برفع شعارات التعاطف، بل تفضح تواطؤ الحكومات الغربية وتحالفها مع آلة القتل. هذه الحشود ليست مجرد تضامن عاطفي، إنها علامة على تصدع في وعي الغرب نفسه، على انكسار الهيمنة السردية التي احتكرت تفسير التاريخ منذ الحرب العالمية الثانية. جيل جديد لم يعد أسير عقدة الذنب النازي ولا أسير سرديات القوة العظمى. جيل يرى فلسطين كما هي: قضية عدالة وحرية، لا ملفًا إقليميًا، بل مرآة تعكس الوجه القبيح لنفاق المنظومة الدولية.

غزة تحولت إلى عدسة مكبّرة تفضح كل شيء. فضحت الكيل بمكيالين في حقوق الإنسان، وفضحت المؤسسات التي تُدين المعتدى عليه وتمنح القاتل حصانة، وفضحت الإعلام الذي يتحدث عن “حق الدفاع” وهو يبارك الإبادة. هذه الفضيحة ليست محصورة في الشرق، بل امتدت إلى قلب المجتمعات الغربية، حيث بدأت الشعوب تدرك أن دعم الاحتلال لا يحمي قيمها بل يهدمها من الداخل، وأن ما يحدث في غزة يعرّي الأكاذيب التي تأسست عليها شرعية النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية.

من هنا يمكن القول إن غزة ليست مجرد مأساة فلسطينية، بل لحظة كونية تهدد بنسف التواطؤ الذي استمر لعقود. المظاهرات العارمة، حملات المقاطعة، الانتفاضات الطلابية في الجامعات العالمية، اساطيل الصمود، كلها ليست ظواهر عابرة، بل مؤشرات على بركان يغلي تحت السطح. هذه ليست حركة تضامن، إنها تمرّد عالمي على منظومة سياسية واقتصادية وإعلامية قررت أن تبيع إنسانيتها في مقابل حماية إسرائيل.

الطوفان الإنساني: بين اليقظة والفعل التاريخي

هل يمكن أن نقول إن ما يحدث اليوم هو بداية طوفان إنساني جديد؟ نعم، إذا استمرت الشعوب في تحويل الغضب إلى أفعال ملموسة، إذا نجحت في فرض مقاطعة اقتصادية وسياسية، وفي الضغط على البرلمانات لتغيير السياسات، وفي فضح النفاق الإعلامي الذي يزين الظلم، وفي تحريك المؤسسات القضائية الدولية لتقديم المسؤولين عن الجرائم أمام العدالة، وفي قلب المعادلة من الشارع إلى دوائر القرار، حيث لا يبقى للسلطة خيار سوى مواجهة الحقائق. لكن الخطر قائم؛ فهذه الموجة يمكن أن تُستنزف بسرعة، وقد يُعاد إنتاجها كفورة عاطفية سرعان ما تخبو. لذلك، السؤال الحقيقي ليس: هل بدأ العالم يستيقظ؟ بل: هل سيتمكن من الحفاظ على يقظته وتحويلها إلى فعل جماعي وتاريخي يغير مسار الأحداث؟

غزة اليوم أعادت تعريف السياسة جذرياً، محطمة كل الأقنعة والمبررات الزائفة. لم يعد ممكناً أن يختبئ أحد خلف شعارات السلام الزائفة، ولا أن تُغطي ذرائع الحرب على الإرهاب جرائم الإبادة المنظمة. غزة قالت للعالم بصوت صارخ: إما أن تنحازوا للإنسان، أو تعترفوا بأن إنسانيتكم مجرد وهم كبير. ما يحدث هنا ليس مجرد صراع على الأرض، بل حرب على الضمير البشري ذاته، اختبار صارخ للأخلاق والعدالة على مستوى عالمي. وما نراه اليوم في الشوارع من لندن إلى نيويورك إلى برلين قد يكون الطوفان الذي يعيد للبشرية بوصلة فقدتها منذ زمن طويل، ويذكّرها بأن الحق لا يُؤجل والعدالة لا تنتظر.

ومن هنا يتضح حجم التحدي أمام الغرب، حيث يواجه إرثه الاستعماري الطويل وقلق ضميره، محاولاً الموازنة بين مصالحه السياسية والتزامه المفترض بالقيم الإنسانية، في اختبار صارخ لقدرة المؤسسات والمجتمعات الغربية على مواجهة ماضيها والمساهمة الفعلية في تغيير الواقع الفلسطيني.

الغرب بين الإرث الاستعماري وقلق الضمير

الغرب بين الإرث الاستعماري وقلق الضمير ليس مجرد عنوان تحليلي، بل هو جرح مفتوح في قلب الإنسانية. فما يجري اليوم في غزة ليس حدثاً معزولاً ولا نزاعاً طارئاً، بل امتداد مباشر لتاريخ طويل من الاستعمار الذي غرس بذور المأساة الفلسطينية منذ أكثر من قرن. لقد كان وعد بلفور 1917 لحظة تأسيسية في خيانة كبرى، حين منح الاستعمار البريطاني أرضاً لا يملكها لشعب لا حق له فيها، فاتحاً الباب أمام مشروع استيطاني قائم على الطرد والاقتلاع والتطهير. هذه الحقيقة التي سعى الغرب إلى طمسها لعقود، تعود اليوم لتواجهه بمرآة دامية لا يمكن تجاهلها.

لكن المأساة ليست فقط في الماضي، بل في الحاضر الذي يفضح استمرارية الاستعمار بوجوه جديدة. فالدول التي كانت بالأمس إمبراطوريات تستعبد الشعوب وتنهب الثروات، هي نفسها التي تمد إسرائيل اليوم بالسلاح، وتمنحها حصانة دبلوماسية، وتشرعن قصف المدنيين تحت ذريعة “حق الدفاع”. إنها ازدواجية أخلاقية فاضحة: كيف يمكن لمن يرفع شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان أن يبرر إبادة شعب أعزل؟ كيف يمكن أن يُختزل الدم الفلسطيني في أرقام باردة بينما تتحول “أمن إسرائيل” إلى مبرر أبدي للتوحش؟

حين تخرج الملايين في شوارع لندن وواشنطن وبرلين، فهي لا تفضح إسرائيل وحدها، بل تفضح حكوماتها التي صنعت آلة القتل وحمتها. تلك الحشود هي شهادة حية على أن الضمير الغربي بدأ يتصدع من الداخل. لم يعد ممكناً الاستمرار في تكرار الأكاذيب ذاتها دون مواجهة سؤال جوهري: إلى متى يمكن لثقافة سياسية مشبعة بالإرث الاستعماري أن تستمر في تبرير الظلم؟ إلى متى يمكن أن يُقنع الغرب شعوبه بأن الدفاع عن “قيم الحرية” يمر عبر سحق حرية الآخرين؟

إن ما نراه اليوم هو عودة مكبوتة لتاريخ لم تتم مراجعته قط. الغرب الذي لم يعتذر يوماً عن جرائمه في إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، يجد نفسه اليوم وجهاً لوجه مع جرح فلسطين الذي يذكّره بأن الاستعمار لم ينتهِ، بل استمر في صيغة احتلال صهيوني محميّ. والجيل الجديد في العواصم الغربية، الذي لم يعد أسير عقدة الحرب العالمية الثانية ولا روايات القوة العظمى، يكتشف فجأة أن بلاده ما زالت أسيرة عقلية استعمارية تضع حياة الفلسطيني أدنى من حياة الإسرائيلي، وتعتبر دماء الجنوب ثمناً رخيصاً لمعادلات الشمال.

هنا يتجلى قلق الضمير الغربي بأوضح صوره: لم يعد بالإمكان تغطية الشمس بغربال. كل صورة لطفل تحت الأنقاض، كل جنازة جماعية في غزة، كل بيت يُسوّى بالأرض، هو صفعة أخلاقية لخطاب يدّعي الإنسانية بينما يغطي وحشية الاحتلال. الغرب اليوم أمام امتحان مصيري: إما أن يتحرر من إرثه الاستعماري ويعترف بجريمته المستمرة، أو يعترف أمام نفسه وأمام العالم بأن قيمه المعلنة ليست سوى أقنعة تخفي نفاقاً بنيوياً.

غزة اليوم ليست مجرد قضية فلسطين. إنها كاشف عالمي، مرايا متصدعة تكشف حقيقة الغرب لنفسه، وتجبره على مواجهة ما هرب منه طويلاً: أن الاستعمار لم يمت، بل عاد في صورة أبشع، وأن الصمت لم يعد ممكناً، لأن الشعوب لم تعد تقبل أن تُخدّر بأكاذيب الأمن والتحالفات الاستراتيجية. هذه الشعوب تكتب الآن بداية طوفان جديد، طوفان يطالب الغرب بأن يختار: إما أن يعيد اكتشاف ضميره، أو أن ينهار تحت ثقل نفاقه.

في الغرب، بدأ الشرخ يتسع بين الشعوب والنخب الحاكمة. الحكومات التي تصرّ على دعم إسرائيل بالمال والسلاح والدبلوماسية تواجه اليوم احتجاجات عارمة لم تعد هامشية. ملايين الشباب الذين نزلوا إلى الشوارع في باريس ولندن وواشنطن ومدريد يعلنون أنهم لم يعودوا أسرى الرواية الرسمية. لم يعد الفلسطينيون ملفاً “معقداً” كما يصفه السياسيون، بل جريمة مستمرة تُرتكب أمام أعين العالم. هذا الانفصال بين الشعوب والحكومات يولّد قلقاً مزدوجاً: سياسي لأن شرعية الحكومات تتآكل، وأخلاقي لأن النخب باتت مكشوفة أمام شعوبها.

ويتجلى هذا القلق أيضاً في الجامعات ووسائل الإعلام. في أميركا، أساتذة يُعاقَبون لتعبيرهم عن تضامنهم مع غزة، وطلاب يُطردون لرفعهم صوتهم ضد الإبادة. لكن بدلاً من كتم هذه الأصوات، فجّرت هذه العقوبات نقاشاً عميقاً حول حرية التعبير وحدود “التوافق السياسي”، وازدواجية المعايير في التعامل مع قضايا حقوق الإنسان. أمامنا جيل جديد يرفض الصمت، ويصر على ربط ما يجري في غزة بمصير الإنسانية بأكملها.

أما في أوروبا، فتستحضر غزة ذاكرة استعمارية لم تُصفَّ بعد. فرنسا تتذكّر الجزائر، بريطانيا تتذكّر فلسطين والهند وأفريقيا، وبلجيكا لا تنسى الكونغو. الشعوب ترى في غزة مرآة لجرائم ارتكبتها إمبراطورياتها بالأمس، وهنا يتضاعف القلق: ليس فقط خوفاً من الحاضر، بل من الماضي الذي يعود ليطارد اليوم بلا هوادة.

لكن “قلق الضمير” لا يقتصر على الغرب. في الجنوب العالمي أيضاً يتبلور إحساس متصاعد بأن فلسطين هي عنوان كل أشكال الظلم. في أميركا اللاتينية، قادة  يرون في غزة استمراراً للاستعمار الذي عانوا منه شعوبهم. في أفريقيا، يتصاعد الوعي بأن القضية الفلسطينية جزء من معركة كونية ضد الهيمنة والاستغلال. في آسيا، ملايين في إندونيسيا وماليزيا وباكستان يعتبرون فلسطين جرحاً مفتوحاً يوحّدهم في مواجهة عالم يدار بمعايير مزدوجة.

هذا التشابك بين القلق الغربي الداخلي والوعي التحرري المتنامي في الجنوب العالمي يخلق لحظة تاريخية نادرة: لحظة يعاد فيها تعريف العدالة الدولية نفسها. لم يعد ممكناً اختزالها في معادلات القوى الكبرى، لأن الشعوب بدأت تستعيد المبادرة. المظاهرات في لندن أو نيويورك تلهم شباباً في جوهانسبورغ أو ساو باولو أو جاكرتا. الطوفان الإنساني الذي يلوح اليوم ليس غربياً أو شرقياً فقط، بل إنسانياً شاملاً، يجمع بين ضمير غربي مثقل بالذنب وضمير جنوبي مثخن بالجراح لكنه لا يزال يؤمن بالمقاومة.

وهكذا يصبح القلق شكلاً من أشكال المقاومة: قلق الشعوب من نفاق حكوماتها، وقلق المثقفين من صمت مؤسساتهم، وقلق الجنوبيين من استمرار الاستعمار بأقنعة جديدة، وقلق الإنسانية كلها من فقدان ما تبقى من ضميرها. غزة ليست مجرد مسرح مأساوي، بل منارة تكشف تناقضات العالم بأسره.

والسؤال الذي يفرض نفسه اليوم: هل سيتحوّل هذا القلق إلى قوة تغيير حقيقية؟ هل ستنجح الشعوب في كسر جدار التحالفات السياسية والعسكرية الراسخة، وتفرض على العالم الاعتراف بأن فلسطين ليست مجرد قضية محلية، بل معيار عالمي لاختبار إنسانيتنا المشتركة؟

غزة والطوفان الإنساني: ضمير العالم على المحك

ما نعيشه اليوم ليس مجرد موجة عاطفية أو هبّة احتجاج عابرة، بل هو شرخ تاريخي يمكن أن يفتح الباب أمام إعادة صياغة قواعد اللعبة الدولية. غزة تحوّلت إلى عدسة مكبّرة تفضح عورات القانون الدولي، وتكشف أن المؤسسات الأممية التي صُمِّمت بعد الحرب العالمية الثانية (الأمم المتحدة، مجلس الأمن) عاجزة أو مُكبّلة بإرادة القوى الكبرى. هذا العجز لم يعد مقبولاً لا أخلاقياً ولا سياسياً. ومن هنا يتشكل سؤال جارف: أي معنى للقانون الدولي إذا لم يستطع حماية شعب يُباد على الهواء مباشرة؟

الطوفان الإنساني الجديد قد يكون بداية لإعادة الاعتبار لهذا القانون نفسه. عندما تخرج ملايين الأصوات لتقول “كفى”، فإنها لا تحتج فقط على العدوان، بل تعلن أن قواعد العدالة لم تعد حِكراً على مجلس أمن مشلول أو على قوى عظمى متناقضة. الشعوب، بتحالفاتها العابرة للقارات، تفرض اليوم أجندة جديدة: العدالة ليست منحة من الأقوياء، بل حق طبيعي تُنتزع انتزاعاً.

هنا يبرز الجنوب العالمي باعتباره الفضاء الأرحب لإعادة التوازن. تحالفات جديدة بدأت تتشكل بين أميركا اللاتينية، أفريقيا، وآسيا، حيث تُستحضر فلسطين كقضية جامعة، رمز للمقاومة ضد الهيمنة القديمة والجديدة. هذا الوعي الجماعي يمكن أن يفتح الطريق أمام شبكات تعاون بديلة: منظمات إقليمية أكثر استقلالية، تكتلات اقتصادية ترفض الارتهان للمركز الغربي، منصات حقوقية تعيد تعريف مفهوم السيادة بعيداً عن الازدواجية.

وليس الغرب بمنأى عن هذا التحول. فقلق الضمير المتصاعد في داخله يمكن أن يتحول إلى قوة ضغط على حكوماته، يدفعها نحو مراجعة سياساتها الخارجية. وربما نكون أمام لحظة نادرة يصبح فيها الضغط الشعبي أقوى من تحالفات السلاح والمال. فهل يُعقل أن تستمر الديمقراطيات الغربية في إنكار إرادة شعوبها وهي التي تزعم أنها تقوم على الشرعية الشعبية؟

إذاً، نحن أمام مفترق طرق: إما أن يُدفن هذا الطوفان الإنساني تحت ركام المصالح والتحالفات التقليدية، أو أن يتحوّل إلى شرارة تعيد صياغة النظام الدولي على أسس أكثر عدلاً. في كلتا الحالتين، غزة لن تُنسى، لأنها لم تعد مجرد جغرافيا محاصرة، بل صارت اختباراً أخلاقياً وسياسياً لحاضر العالم ومستقبله.

بهذا المعنى، يمكن القول إن الطوفان الإنساني الجديد ليس مجرد رد فعل، بل فرصة تاريخية: فرصة لتجديد القانون الدولي، لإصلاح المؤسسات الأممية، ولتثبيت تحالفات جنوب–جنوب لا تُبنى على التبعية بل على الكرامة والندية. ومن هنا، فإن السؤال الأعمق ليس فقط: “هل يستيقظ ضمير العالم؟” بل: “هل يملك هذا الضمير القوة ليعيد بناء العالم من جديد؟”

الطوفان الإنساني الجديد: هل تعيد غزة العالم إلى ضميره؟

في ضوء الطوفان الإنساني الذي يلوح اليوم كمخاض يضع ضمير العالم على المحك، تتجلى غزة ليس فقط كمكان مأساوي، بل كبؤرة اختبار لضمير البشرية كله. غزة اليوم ليست مجرد مدينة تحت النار؛ إنها قلب البشرية الممزق، مرآتنا جميعًا، حيث يتجلى الانقسام الفاضح بين شعارات الحرية وواقع الإبادة. هناك، تحت الأنقاض، يختبر أطفال يلهثون للهواء إنسانيتنا جميعًا. هناك، في المخيمات المزدحمة والجوع المتفشي، تنكشف كل الأقنعة: أقنعة الديمقراطيات الغربية التي تُغطي القتلة بفيتو سياسي، أقنعة الأنظمة التي تكتفي بالبيانات الهزيلة، أقنعة المؤسسات الدولية التي تبيع الأوهام بلغة القانون الدولي. ومع ذلك، وسط هذا الركام، ينهض طوفان جديد، طوفان لا تصنعه الجيوش ولا تعلنه الحكومات، بل تبنيه الشعوب في الشوارع والساحات، هاتفين: “كفى، لن نصمت بعد الآن”، و”فلسطين حرة”.                      

المجازر في غزة كسرت الصمت الطويل، وحطمت وهم العزلة السياسية والإعلامية الذي حاول البعض فرضه على القضية الفلسطينية. لم تعد فلسطين مجرد ملف تفاوضي يُناقش على طاولات مغلقة، ولا “نزاعًا حدوديًا” يهم فقط سكان الشرق الأوسط. فلسطين اليوم أصبحت مرآة للوعي الإنساني كله، حيث اخترقت الصور والفيديوهات القادمة من هناك جدار الصمت الإعلامي الغربي وأحدثت زلزالًا في الضمير العالمي. لم يعد ممكناً أن يختبئ الاحتلال وراء شعارات “الدفاع عن النفس”. كيف يمكن لمن يمتلك طائرات إف-16 ودبابات ميركافا وطائرات مسيرة عن بُعد أن يدافع عن نفسه ضد أطفال يحملون حجارة، أو نساء يفرون من الموت؟ الحقيقة اليوم عارية أمام العالم، وكل من يحاول تبرير هذا العنف يصبح شريكًا في الجريمة.

المظاهرات التي اجتاحت لندن وباريس وبرلين ومدريد ونيويورك وروما ليست مجرد موجات غضب عاطفي، بل إعلان سقوط الرواية الرسمية. ملايين خرجوا متحدّين الإعلام المهيمن، مكسرين الدعاية الصهيونية التي سيطرت على العقول لعقود. هذه الأجيال الجديدة تقول بوضوح: “لسنا أسرى عقدة المحرقة، لسنا رهائن لتاريخكم الاستعماري. نحن نرى غزة كما هي: مجزرة علنية تُرتكب أمام العالم، ووصمة عار على جبين من يصمت أو يبرر.”

لكن الغرب لا يهرب من الحاضر فقط، بل من ماضيه أيضاً. من وعد بلفور إلى حروب الاستعمار، من زرع الكيان الصهيوني إلى تسليحه بكل أدوات الدمار، الغرب هو الأب الشرعي لهذه المأساة. اليوم، حين تهتف الملايين ضد السياسات الغربية في عواصم الغرب نفسها، فإنها لا تحتج على إسرائيل وحدها، بل على أنظمتها المتواطئة التي مدت القتلة بالسلاح، وحمتهم في الأمم المتحدة، وبررت لهم جرائم لا تُبرر. هنا يتفجر قلق الضمير: إلى متى يمكن لحكومات تدّعي الديمقراطية أن تكمم أفواه شعوبها، وتواصل غسل جرائمها بماء الأكاذيب؟

وليس الغرب وحده المعني. في الجنوب العالمي، في إفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا، يسمع الناس صرخات غزة كما يسمعون صرخاتهم القديمة ضد الاستعمار. فلسطين صارت أيقونة جديدة لمقاومة الإمبريالية المعاصرة. في الشوارع العربية، حيث الغضب الشعبي يشتعل بينما الأنظمة تصمت أو تساوم، يتضح التناقض الفاضح: الشعوب تريد أن تصرخ وتقاوم، لكن الحكام يصرون على أن يكونوا جزءًا من الصمت العالمي.

غزة اليوم هي الاختبار الحقيقي لكل إنسان. كل رصاصة تُطلق هناك ليست فقط ضد الفلسطينيين، بل ضد الضمير العالمي. كل صاروخ يسقط على مخيم مكتظ هو إعلان موت لحقوق الإنسان. ومع ذلك، فإن الطوفان الشعبي يثبت أن الضمير لم يمت بعد، لكنه يحتاج إلى نار غزة ليُستيقظ من سباته. السؤال هو: هل سيبقى هذا الوعي مجرد غضب عاطفي في الشوارع، أم سيتحول إلى فعل سياسي واقتصادي حقيقي؟ مقاطعة، ضغط، محاسبة، كسر للتحالفات المجرمة؟ الشعوب تقول نعم، والكرة اليوم في ملعبها.

هذا الطوفان لن يتوقف عند غزة. هو موجة عالمية تُهدد بكشف كل نفاق، وبتقويض كل نظام دولي يشرعن القتل باسم “القانون”. من لم يفهم بعد، فليقرأ جيدًا: الشرارة خرجت من غزة، لكن النار ستحرق كل من راهن على موت الضمير.

إن غزة لا تنتظر شفقة العالم، بل تفرض عليه مواجهة نفسه. هي المرآة التي تكشف: من يقف مع العدالة ومن يهرب منها؟ من يرفع حقوق الإنسان شعارًا، ومن يدوسها بقدميه؟ من يجرؤ على قول الحقيقة، ومن يختبئ وراء الجدران الدبلوماسية؟

الطوفان الإنساني الجديد قادم. ليس طوفان دمار، بل طوفان وعي، طوفان يحاكم الكاذبين والمتواطئين، طوفان يعلن نهاية عصر النفاق. غزة أطلقت الشرارة، والعالم كله على موعد مع الحساب.

الطوفان الجديد: دلالاته الحضارية

إذا كان “طوفان الأقصى” الفلسطيني قد اقتلع صمت الميدان وجعل الأرض تهتز تحت أقدام الظلم، فإن الطوفان الإنساني العالمي اليوم يهز الضمير ويكشف وجوه الحقيقة المدفونة خلف ستار الصمت الطويل. هذا التحول ليس مجرد موجة غضب عابرة، بل هو بداية فجر جديد في وعي الإنسانية، مؤشر على أن العالم بدأ يستعيد بوصلة القيم التي ضلت طريقها لعقود.

الطوفان الإنساني يعيد رسم حدود الخير والشر، ويكشف أن الضحية ليست مجرد اسم في تقارير الصحافة، بل إنسان يئن تحت وطأة الظلم، وأن الجلاد ليس مجرد قوة سياسية، بل ظاهرة تتطلب مواجهة أخلاقية حقيقية. هذه الحقيقة المتوهجة تفرض على الأفراد والمؤسسات تحمل مسؤولياتهم، وتدعوهم إلى الانحياز للحق والعدالة، بعيداً عن الغضب الانتقائي والصمت المتواطئ الذي طالما رافق مأساة الفلسطينيين.

وفي الوقت نفسه، يتحرك هذا الطوفان ليضع ضغوطاً ملموسة على الحكومات الغربية، ليذكّر السياسيين بأن القوى الشعبية لم تعد صامتة أمام الانحياز التقليدي، وأن المواقف القديمة التي تُبنى على المصالح الضيقة لم تعد مقبولة. ووسط هذا الزخم، يُطرح السؤال الحضاري الأكبر: هل ستظل قيم الحرية والعدالة مجرد شعارات تتوزع انتقائياً، أم ستصبح مبادئ شاملة تطبق على الجميع، بما في ذلك أولئك الذين دُفنوا تحت أنقاض الاحتلال والظلم؟ هذا الطوفان يمثل فرصة لإعادة صياغة الحضارة الحديثة، لتصبح أكثر وفاءً لمبادئ الإنسانية نفسها، لا لمصالح القوى وحدها.

غزة اليوم ليست مجرد مكان على الخريطة، بل مختبر الضمير العالمي، شرارة قد توقظ الإنسانية من سباتها الطويل. المظاهرات، حملات المقاطعة، والأصوات الحرة تشكل دلائل على أن الإنسانية بدأت تستعيد قدرتها على الغضب، وعلى الأمل في آن واحد. نعم، يمكن أن نتفاءل، ليس لأن العدوان توقف أو المأساة خفت، بل لأن الدم الفلسطيني المسفوك أعاد للبشرية مرآتها، وأرادها أن ترى نفسها في عيون الضحايا. وإذا ما تحول هذا الوعي المتجدد إلى فعل جماعي منظم، فقد نشهد ميلاد طوفان إنساني جديد، يوازن ميزان العدالة في العالم ويضع حدّاً لأطول مأساة استعمارية في التاريخ المعاصر، مؤسساً لعهد جديد من المسؤولية الإنسانية المشتركة، حيث تصبح الإنسانية بحق أكثر من مجرد شعارات على ورق، بل حياة وحماية وكرامة للجميع.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى