الوهم الاقتصادي للملاعب العملاقة
قراءة نقدية لسردية الهيمنة والتنمية المزيفة


بقلم: د. محمد السنوسي..
في العقود الأخيرة، تحوّلت الأحداث الرياضية الكبرى – من الأولمبياد إلى كؤوس العالم – إلى مختبر عالمي تتقاطع فيه السياسة والاقتصاد والرمزية. لم تعد الملاعب مجرد فضاءات للتباري الرياضي، بل صارت رموزاً مشحونة بخطاب التنمية والتحديث والهوية الوطنية. وتحت هذا الغلاف اللامع، جرى تسويق فكرةٍ تبنّتها حكومات ومنظمات رياضية وإعلامية: أن استضافة حدث عالمي قادر على اختصار مسارات التنمية وتحقيق قفزة اقتصادية–اجتماعية في زمن وجيز.
لكن، ومع تراكم التجارب من البرازيل وجنوب إفريقيا إلى اليونيان وقطر، بدأت تتضح الفجوة بين الوعد والواقع: كلفة مالية هائلة تتجاوز الميزانيات الأصلية بأضعاف، بنى تحتية تتحول سريعاً إلى “أفيال بيضاء”، وديون طويلة الأجل تقايض أجيالاً مستقبلية من أجل لحظة عابرة من الأضواء العالمية. هكذا تحوّل ما قُدِّم كـ«رافعة للنمو» إلى ما يسميه الباحثون «الوهم الاقتصادي» (economic illusion) للأحداث الرياضية الكبرى.
في السياق العربي والأفريقي، حيث التحديات البنيوية في التعليم، الصحة، والبحث العلمي ما تزال قائمة، يصبح تبنّي هذه السرديات أكثر خطورة: إذ تُستخدم المشاريع الرياضية الكبرى كأداة لإعادة إنتاج الأولويات المشوهة، ولإقناع الرأي العام بأن «الصورة في الخارج» يمكن أن تعوّض عن غياب العدالة الاجتماعية في الداخل.
هنا، يتعيّن على الباحث والمثقف أن يميّز بين التنمية الاستعراضية التي تُغذّيها هذه المشاريع، وبين التنمية الفعلية التي تقاس برأس المال البشري، بالقدرة التكنولوجية، وباستدامة الاقتصاد.
ومن هذا المنظور، ومن منطلق المسؤولية الفكرية، أقدّم هذا المقال كتكملة لمقال سابق بعنوان “الاستثمارات التي يحتاجها المغرب اليوم“، بهدف تحليل السردية المضلِّلة المحيطة بالملاعب والأحداث الكبرى. هذه المبادرة ليست مجرد تمرين أكاديمي، بل ضرورة فكرية وسياسية لفهم آليات إعادة إنتاج الوهم، واستكشاف سبل تفكيكه بأسس علمية ومنهجية صارمة.
أولاً: السرديّة المُضلِّلة – كيف تُصنع «التنمية الاستعراضية»؟
الملاعب الكبرى ليست مجرد خرسانة ومقاعد؛ بل هي آلة سردية متكاملة، تعيد تشكيل وعي الجمهور بما يُشبه “معادلة مختصرة”: حدث رياضي لامع = نمو سريع = مكانة دولية. هذه المعادلة جذابة سياسياً وإعلامياً، لكنها واهية اقتصادياً ومضللة معرفياً. وراء هذا السرد تعمل منظومة كاملة من الخطاب والمصالح، تحوّل “الاستثناء الرياضي” إلى حالة طوارئ تنموية دائمة تُبرر تحويل المال العام من القطاعات المنتجة—التعليم، الصحة، البحث العلمي—إلى مشاريع مرتفعة الكلفة ومتواضعة العائد.
- الخداع الرمزي: صناعة صورة تغطي فجوة الواقع
يُسوَّق للحدث على أنه “قفزة في السمعة الوطنية” و”تأشيرة دخول للنادي العالمي”، لكن صورة الدولة لا تتحول إلى رأس مال تنموي إلا بإصلاحات بنيوية متواصلة. الدراسات التاريخية للأولمبياد وكؤوس العالم تُظهر أن الهيبة المؤقتة لا تمنع عجز الميزانيات ولا تقلص الفوارق الاجتماعية ((Boykoff, 2016؛ Preuss, 2004.) [1]ما يسمى “الأثر غير الملموس” يُضخَّم إنشائياً ليخفي الأثر الملموس: ديون طويلة الأمد والتزامات صيانة باهظة لمرافق تُعرف بـ”الأفيال البيضاء” (White Elephants).
2. الخداع الاقتصادي: أرقام منتفخة ومضاعفات وهمية
تُبنى الوعود على نماذج “أثر اقتصادي” تميل منهجياً إلى المبالغة في الطلب، تجاهل الإحلال، وإغفال التسرب إلى سلاسل التوريد الأجنبية. مسح واسع للخبراء يُظهر أن الأثر الصافي غالباً ما يكون ضئيلاً أو سلبياً على المدى المتوسط ([2](Coates & Humphreys, 2008؛[3]. Baade & Matheson, 2016) زيمباليست[4] (Zimbalist, 2015) وصف هذه الاستثمارات بأنها “رهانات فاشلة” تتغذى على حسابات سياسية أكثر من كونها حسابات اقتصادية. كذلك تؤكد أدبيات المشاريع الكبرى ((Flyvbjerg 2009؛ 2023) أن تجاوز الكلفة ونقص المنافع هو قاعدة شبه ثابتة بسبب التحيز التفاؤلي والتحريف الاستراتيجي[5].
3. الخداع السياسي: الاستثناء كأداة لإعادة توزيع غير عادل
اللحظة الرياضية تتحول إلى شرعية بالفرجة: الأضواء تُستخدم لصرف الانتباه عن الأزمات البنيوية، تُنشأ أطر استثنائية في المشتريات والتعاقدات، وتزداد قابلية الالتقاط من شبكات المقاولة الكبرى والتحالفات العقارية–الإعلامية. تقارير ترانسبيرنسي إنترناشونال ( Transparency International) تظهر أن التضخيم المصطنع للاستعجال يضعف النزاهة والشفافية ويرفع مخاطر الفساد في المناقصات، بينما تتراجع المحاسبة البرلمانية والرقابة المدنية تحت ضغط الزمن والالتزامات التنظيمية العابرة للحدود ([6](Transparency International, 2016؛ (Crompton, 1995).[7].
4. أبعاد مهملة في “سلسلة الخداع“
تتسم “سلسلة الخداع” في المشاريع الرياضية الكبرى بأبعاد غالبًا ما تُغفل في التحليلات السطحية، لكنها تكشف بدقة عن التكاليف الحقيقية لهذه الاستثمارات. فعلى الصعيد الحضري، يرتبط تحضير هذه الأحداث غالبًا بعمليات تهجير ناعم للسكان المحليين، وارتفاع أسعار السكن، وإعادة تشكيل المدن لصالح استثمارات ربحية على حساب الخدمات الأساسية. هذه الممارسات تعمّق الفجوات في الوصول إلى الموارد الحضرية، وتزيد من تفاقم عدم المساواة الاجتماعية، وهو ما يبرز بوضوح في بعض المدن المغربية التي تستعد لاستضافة حدث 2030، حيث تتكرر نفس الأنماط الاستعراضية على حساب السكان والمجتمعات المحلية. أما على صعيد الأمن والحقوق، فإن التوسع المؤقت في البنية الأمنية غالبًا ما يتحول إلى حالة دائمة، مصحوبًا بتقييد للحريات المدنية وتقليص للمساحات العامة الحية، ما يخلق إرثًا أمنيًا مستدامًا مع تكلفة اجتماعية باهظة (Boykoff, 2016).[8]
أما البيئة والمناخ، فإن شعار “الاستدامة” غالبًا ما يكون تجميليًا، إذ يظل الأثر الكربوني للمنشآت والسفر والتشغيل مرتفعًا، بينما تكون محاولات التعويض عبر أرصدة الكربون غير فعّالة وهشة. ومن جهة أخرى، تتجلى مخاطر الشراكات بين القطاع العام والخاص في أن المنافع غالبًا ما تذهب للقطاع الخاص، بينما يتحمل القطاع العام كامل المخاطر المالية والتشغيلية. وأخيرًا، هناك الفرص الضائعة، إذ أن كل درهم يُستثمر في ملعب هو درهم لم يُستثمر في مجالات أكثر إنتاجية واستدامة مثل المختبرات، المدارس، والمستشفيات مراكز البحث، الجامعات التي تضمن عوائد اجتماعية طويلة الأجل ومردودًا اقتصاديًا أعلى وأكثر أمانًا.
أي محاولة لتسويق المشاريع الرياضية الكبرى كرافعة أساسية للتنمية تُظهر، بالضرورة، إما جهلاً بالتاريخ الاقتصادي أو سعيًا لتبرير أجندات سياسية ضيقة ومحدودة الرؤية.
الخلاصة التحليلية تكشف النقاط الجوهرية التالية:
- العوائد الاقتصادية للمشاريع الرياضية الكبرى غالباً ما تكون مؤقتة ومتسرّبة، في حين تبقى الأكلاف دائمة ومتراكمة.
- المواطن العادي يستفيد فقط من الجانب الرمزي للحدث، بينما تستحوذ شبكات محدودة على المنافع الفعلية.
- التنمية الحقيقية تقوم على الإنسان والمعرفة والابتكار، لا على المباني الضخمة أو البطولات العابرة.
- قدرة الدولة على التأثير تُقاس بترتيب الأولويات وفق خريطة سيادية للإنفاق العام، حيث يأتي الاستثمار في الإنسان، التعليم، البحث العلمي، الطاقة النظيفة، والرقمنة قبل الصورة الإعلامية أو اللحظة العابرة.
ثانياً: سقوط الوهم الاقتصادي للمشاريع الرياضية الكبرى
استنادًا إلى هذا الأساس، تُظهر الأرقام والبحوث المستقلة بوضوح أن الوعود الاقتصادية المصاحبة للأحداث الرياضية الكبرى غالبًا ما تكون مجرد وهم، وأن الانطباع الإعلامي المبهر يخفي أعباء مالية طويلة الأمد وتداعيات اجتماعية واقتصادية سلبية. ويمكن تفكيك هذه الظاهرة وتحليلها على مستويين متكاملين:
- البعد الظاهر: وعد النمو المؤقت
غالبًا ما يُسوَّق من خلال الخطاب الرسمي أن الملاعب والمهرجانات الرياضية هي محركات للنمو الاقتصادي ورافعات لخلق آلاف الوظائف، غير أن الأدلة العلمية تكشف الحقيقة المخفية: هذه المشاريع لا تولّد إلا وهماً استثمارياً باهظ الثمن. فقد أظهرت دراسة بايد وماثيسون أن الأثر الاقتصادي الصافي للألعاب الأولمبية غالبًا ما يكون سلبيًا، إذ تتجاوز التكاليف الحقيقية كل الإيرادات المعلنة، بينما تظل الوظائف المنشأة مؤقتة، ولا تتحوّل الاستثمارات في البنية التحتية إلى نمو مستدام. وفي سياق مماثل، وصف زيمباليست المشاريع الرياضية الكبرى بأنها “رهانات فاشلة”، مستشهداً بحالات بارزة مثل ملاعب أثينا 2004 التي أغرقت اليونان في أزمة ديون خانقة، وملاعب البرازيل 2014 التي تحوّلت إلى أفيال بيضاء موسمية باهظة الصيانة. وعلاوة على ذلك، أكدت دراسة مؤسسة بروكينغز أن كل درهم يُستثمر في هذه المشاريع كان يمكن أن يحقق عوائد مضاعفة لو وُجّه إلى القطاعات الاجتماعية الأساسية مثل التعليم والصحة، حيث يسهم في إنتاج رأس مال بشري يعزز التنمية المستدامة والشاملة، ويحول الموارد العامة من استعراضٍ استثماري محدود العائد إلى رافعة حقيقية للتقدم الاجتماعي والاقتصادي.
2. البعد الباطن: وظيفة السردية ومغزاها السياسي
ما وراء الأرقام والبيانات يظهر بوضوح الأبعاد الاستراتيجية والسياسية الكامنة وراء المشاريع الرياضية الكبرى، والتي تتجاوز مجرد حسابات التكلفة والعائد لتكشف عن لعبة مصالح دقيقة. أولاً، الهيمنة الرمزية: تُستغل هذه المشاريع لتلميع صورة الدولة على الصعيد الدولي، ولإيهام المواطنين بأن الدولة الحديثة قادرة على المنافسة العالمية، في حين أن الواقع الاقتصادي والاجتماعي يكشف فجوة واضحة بين الصورة الإعلامية والقدرة الفعلية على تحسين حياة الناس. ثانياً، صرف الانتباه عن الأولويات الحقيقية: بينما تُستنزف موارد هائلة على الملاعب والمهرجانات، تظل المستشفيات والمدارس ناقصة البنى والكوادر المؤهلة، مما يرسخ منطقًا مزدوجًا يقوم على إبراز ما يُعرض إعلاميًا وإهمال ما يُحقق أثرًا ملموسًا على التنمية. ثالثاً، تحويل الرأسمال البشري إلى أداة استعراضية: فمن المفترض أن تعزز المشاريع الرياضية الكفاءات الوطنية، لكنها غالبًا ما تحصر الفوائد في نطاق ضيق، ولا تُترجم إلى تعزيز الصناعات المحلية أو نقل المعرفة التقنية، لتظل الطاقات البشرية مجرد استعراض مؤقت، بدلاً من أن تكون رافعة للتقدم المستدام على المدى الطويل.
ثالثا: تفكيك النوايا المضمورة وراء المشاريع الرياضية الكبرى
إن التمسك بوهم المشاريع الرياضية الكبرى، رغم تراكم الأدلة العلمية والاجتماعية التي تفند أي جدوى اقتصادية مستدامة لها، لا يمكن تفسيره إلا من خلال كشف النوايا المضمورة التي تقف وراء الترويج لهذه السياسات. هذه ليست مجرد أخطاء حسابية أو سوء تقدير، بل خيارات واعية تخدم مصالح محددة على حساب المصلحة العامة والتنمية الحقيقية.
أولاً: تحويل الموارد العمومية إلى قنوات محدودة
الإنفاق الضخم على الملاعب والبنية التحتية المصاحبة غالبًا ما يذهب إلى مجموعة ضيقة من الشركات الكبرى، لوبيات البناء والعقار، والمقاولات المتحالفة مع السلطة، بينما المواطن العادي يكتفي بفتات الوظائف المؤقتة أو خدمات سطحية لا تغير من حياته اليومية. وتؤكد الدراسات الاقتصادية المستقلة التي أشرنا إليها أن العوائد الصافية لهذه المشاريع غالبًا ما تكون سلبية، مما يحوّلها إلى عبء دائم على خزينة الدولة، مع تأثير طويل الأمد على القطاعات الحيوية مثل التعليم والصحة.
ثانياً: صناعة “إجماع وطني مصطنع“
تستغل الفعاليات الرياضية الكبرى لإيهام الجمهور بالوحدة الوطنية ولصرف الانتباه عن التفاوتات الاجتماعية الحقيقية: ضعف التعليم، هشاشة الصحة العامة، الفقر الحضري والريفي. إنها مسرحية إعلامية متقنة، تخفي هشاشة السياسات العمومية وراء أضواء الألعاب النارية وحشود المدرجات، وتحوّل اللحظة العابرة إلى شعار وهمي للتنمية.
ثالثاً: استيراد نموذج “التنمية الاستعراضية” السياسي
يعتمد هذا النموذج على الرمزية واللحظة الاستعراضية، حيث تُقاس قدرة الدولة على الحكم أو الشرعية السياسية بقدرتها على تنظيم حدث عالمي، لا بقدرتها على بناء اقتصاد مستدام أو رأس مال بشري مؤهل. وبهذا يتم استبدال المستقبل المستدام باللحظة العابرة، والتنمية الحقيقية بالرمزية الفارغة، بما يضمن استمرار شبكات النفوذ والسيطرة على الموارد العامة.
ما يُسوَّق على المواطن بوصفه “فرصة تنموية” ليس أكثر من أداة لإعادة إنتاج هياكل اقتصادية وسياسية ضيقة. أي قراءة سطحية لهذه المشاريع أو تبريرها باعتبارها رافعة للنمو لا تكشف فقط عن جهل بأسس الاقتصاد التنموي، بل تكشف أيضًا عن نوايا مضمرة لإخفاء الأولويات الحقيقية وتحويل الأموال العامة إلى أدوات استعراضية تخدم مصالح محددة، بعيدًا عن التنمية الشاملة والمستدامة.
الاستنتاج العلمي: كشف المستور عن المشاريع الرياضية الكبرى
الأدلة الواقعية والبحوث المستقلة تكشف بلا لبس أن المشاريع الرياضية الكبرى ليست مجرد استثمارات مالية، بل أداة لإعادة توزيع الموارد العامة نحو مصالح محدودة، على حساب التنمية الحقيقية والمستدامة. فهي، رغم الصور الإعلامية المبهرة والرمزية العالية، تستنزف الأموال العامة، وتشتت القدرات المؤسسية، وتغفل الأولويات الحقيقية مثل التعليم، الصحة، البحث العلمي، والبنية التحتية الرقمية والصناعية — القطاعات التي تولّد نموًا مستدامًا وقيمة اجتماعية حقيقية.
أولًا: الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية الخفية
- ضغط مؤسسي طويل الأمد: الملاعب الضخمة والبطولات الكبرى تتطلب لجان إشراف وصيانة دائمة، موظفين متخصصين، وأنظمة محاسبة معقدة، مما يرهق المؤسسات الحكومية ويشتت الموارد عن القطاعات الحيوية الأخرى.
- فرص ضائعة (Opportunity Cost): كل درهم يُستثمر في هذه المشاريع هو درهم لم يُستثمر في تطوير رأس المال البشري، الابتكار التكنولوجي، الصناعات المحلية، أو البنية التحتية المستدامة، ما يزيد الفوارق الاجتماعية ويضعف القدرة التنافسية الوطنية على المدى الطويل.
- إعادة إنتاج شبكات النفوذ: غالبًا ما تُستغل هذه المشاريع لتقوية شبكات محددة من المقاولين والمستثمرين المرتبطين بالسلطة، ما يقلص الشفافية ويضعف الرقابة البرلمانية والمجتمعية.
- فشل الاستدامة التنموية: المشاريع الكبرى لا تحل المشكلات الاقتصادية أو الاجتماعية الجوهرية، بل توفر نشاطًا مؤقتًا لا يُترجم إلى قدرة إنتاجية مستدامة، وتكبح الابتكار وتؤخر التحولات النوعية الضرورية للنمو.
ثانيًا: البعد الاجتماعي والسياسي المخفي
الملاعب العملاقة ليست مشاريع بنائية محايدة؛ فهي أدوات لإعادة توزيع الثروة نحو شبكات محددة. شركات البناء الكبرى، لوبيات العقار، والمقاولات المرتبطة بالسلطة تستفيد بشكل مباشر، بينما المواطن العادي يحصل على وظائف مؤقتة دون استقرار اقتصادي. على المستوى السياسي، تعمل هذه المشاريع كآلية شرعنة للسلطة، توهم المواطنين بفاعلية الدولة بينما الثغرات البنيوية في التعليم والصحة والسكن تبقى دون معالجة. يمكن وصف هذا النمط بـ”التنمية الكاذبة” أو development illusion، حيث تتحول الميزانيات إلى رموز مشهدية تُستثمر فيها الطاقة الشعبية في احتفالات مؤقتة بدل تعزيز قدرات المواطنين الاقتصادية والاجتماعية.
ثالثًا: الدرس المقارن – النهضة الحقيقية مبنية على الإنسان والمعرفة
تقدم تجارب كوريا الجنوبية واليابان نموذجًا حاسمًا يوضح أن النهضة الاقتصادية والاجتماعية لا تُبنى عبر الملاعب أو البطولات العابرة، بل من خلال استثمار جذري ومستمر في الإنسان والمعرفة والتكنولوجيا.
في كوريا الجنوبية، منذ السبعينيات، تم توجيه الاستثمار نحو التعليم العالي والبحث العلمي، ما مكّنها من تطوير صناعات متقدمة مثل الإلكترونيات والسيارات، وتحويل رأس المال البشري إلى قوة تنافسية على المستوى العالمي.
أما اليابان، فقد بنَت اقتصادها على الابتكار والتقنية، مع استثمارات متواصلة في البنية التحتية التكنولوجية والخدمات العامة، ودعم مستمر للبحث والابتكار الصناعي، ما أتاح لها التفوق الصناعي والاقتصادي على المدى الطويل.
تثبت هذه التجارب بوضوح أن الاستثمار في الإنسان والمعرفة والتكنولوجيا هو الركيزة الحقيقية للتنمية المستدامة، بينما المشاريع الرياضية الكبرى تستهلك الموارد وتُغذّي أوهام النمو دون تحقيق أثر مستدام.
خاتمة: كشف المستور – الطريق نحو التنمية الحقيقية
عند تفكيك السردية الاستعراضية للمشاريع الرياضية الكبرى، تتضح الحقيقة دون مواربة: هذه المشاريع ليست أدوات حقيقية للتنمية الاقتصادية أو الاجتماعية، بل آليات لإعادة إنتاج التبعية السياسية والاقتصادية، وتجميل صورة السلطة أمام الرأي العام، وإيهام الشعوب بأن رفرفة الأعلام أو صخب الملاعب يمكن أن يعوّض عن الغياب المزمن للبنية التحتية التعليمية والصحية.
في السياق المغربي، يتجلّى هذا المنطق الاستعراضي بوضوح؛ فهو يغطي هشاشة السياسات العمومية ويحوّل الموارد العامة لصالح مصالح محددة، بينما يظل المواطن العادي مستهلكًا للرمزية دون أن يستفيد فعليًا من التنمية الحقيقية. وتؤكد الدراسات الاقتصادية والاجتماعية المستقلة أن الاعتماد على هذه المشاريع كرافعة أساسية للنمو يؤدي غالبًا إلى ثقوب مالية، تراكم ديون، وعبء مستدام على الأجيال القادمة.
من هنا، تتضح الاستنتاجات العلمية الدقيقة:
- غالبًا ما تكرس المشاريع الرياضية الكبرى اللامساواة الاقتصادية، إذ تستفيد منها شبكات محدودة، بينما المواطن العادي يظل مستهلكًا للرمزية دون أي أثر دائم.
- تعمل هذه المشاريع كأدوات شرعنة سياسية، تخفي هشاشة السياسات الاجتماعية والاقتصادية، وتحوّل الموارد العامة إلى واجهات إعلامية مؤقتة.
- النهضة الحقيقية تعتمد على الإنسان والمعرفة والابتكار، لا على المباني الضخمة أو البطولات العابرة، لأنها تضمن تراكم القدرات الوطنية واستدامة التنمية.
- أي ترويج لفكرة أن المشاريع الرياضية الكبرى يمكن أن تكون محركًا أساسيًا للتنمية يجب أن يُقرأ نقديًا، لأنه يكشف إما عن جهل بالتاريخ الاقتصادي أو عن محاولات لتبرير أجندات سياسية ضيقة، تهدف إلى تحويل الموارد العامة إلى أدوات استعراضية مؤقتة.
توصيات استراتيجية لصناع القرار:
تستخلص هذه التوصيات من التحليل العلمي الدقيق، وتقدّم خارطة طريق واضحة للتركيز على التنمية الحقيقية بدل الاستعراض الرمزي:
- إعطاء الأولوية للإنسان والمعرفة: التركيز على التعليم، البحث العلمي، التدريب المهني، والابتكار قبل أي مشاريع رمزية.
- تعزيز السيادة الاقتصادية: إعادة توجيه الموارد نحو القطاعات المنتجة التي تولّد أثرًا اقتصاديًا واجتماعيًا ملموسًا.
- حوكمة صارمة وشفافة: مراقبة العقود والمناقصات بمؤشرات دقيقة للشفافية والمساءلة، لضمان استخدام الموارد العامة بفعالية.
- الأحداث الرياضية كأداة ثانوية: توظيف البطولات والملاعب لتعزيز الاستثمارات الفعلية والبنية التحتية، وليس كغاية أو رمز للتقدم.
باختصار، الفارق بين التنمية الرمزية والتنمية الحقيقية جليّ: الأولى تهدر الموارد في رموز عابرة، بينما الثانية تبني قدرة وطنية مستدامة، توفر فرصًا متساوية، وتعزز استقلالية الدولة الاقتصادية والاجتماعية.
المغرب، إن أراد أن يكون فاعلًا اقتصاديًا وسياسيًا، لا يمكنه الاكتفاء بالمظاهر العابرة، بل عليه الاستثمار في ملاعب المستقبل الحقيقية: الإنسان، المعرفة، والابتكار. هنا تتحول الطموحات إلى قوة، ويصبح الوطن فاعلًا محوريًا قادرًا على صياغة مستقبله، حماية سيادته، وضمان تنمية مستدامة وشاملة لكل المواطنين.
مراجع
[1]. Boykoff, Jules (2016). Power Games: A Political History of the Olympics. London : Verso Book2. Coates, Dennis & Humphreys, Brad R. (2008). Do Economists Reach a Conclusion on Subsidies for Sports Franchises, Stadiums, and Mega-Events? Econ Journal Watch, 5(3), 294–315.
3. Baade, Robert A., & Matheson, Victor A. (2016). Going for the Gold: The Economics of the Olympics. Journal of Economic Perspectives, 30(2), 201–218. https://doi.org/10.1257/jep.30.2.201
4. Zimbalist, Andrew (2015). Circus Maximus: The Economic Gamble Behind Hosting the Olympics and the World Cup. Washington, D.C.: Brookings Institution Press.
5. Flyvbjerg, Bent (2009). Survival of the Unfittest: Why the Worst Infrastructure Gets Built—and What We Can Do About It. Oxford Review of Economic Policy, 25(3), 344–367. See a second reference for the author: Flyvbjerg, Bent, & Gardner, Dan (2023). How Big Things Get Done: The Surprising Factors That Determine the Fate of Every Project, from Home Renovations to Space Exploration and Everything in Between. Currency: Penguin Random House.
6. Transparency International. (2016). Global Corruption Report: Sport. Routledge.
7. Crompton, John. L. (1995). “Economic Impact Analysis of Sports Facilities and Events: Eleven Sources of Misapplication.” Journal of Sport Management, 9(1), 14–35. https://doi.org/10.1123/jsm.9.1.14
8. Boykoff, John. (2016). Power Games: A Political History of the Olympics. London : Verso Books.Op. Cit.
[1]. Boykoff, Jules (2016). Power Games: A Political History of the Olympics. London : Verso Book
[2]. Coates, Dennis & Humphreys, Brad R. (2008). Do Economists Reach a Conclusion on Subsidies for Sports Franchises, Stadiums, and Mega-Events? Econ Journal Watch, 5(3), 294–315.
[3]. Baade, Robert A., & Matheson, Victor A. (2016). Going for the Gold: The Economics of the Olympics. Journal of Economic Perspectives, 30(2), 201–218. https://doi.org/10.1257/jep.30.2.201
[4]. Zimbalist, Andrew (2015). Circus Maximus: The Economic Gamble Behind Hosting the Olympics and the World Cup. Washington, D.C.: Brookings Institution Press.
[5]. Flyvbjerg, Bent (2009). Survival of the Unfittest: Why the Worst Infrastructure Gets Built—and What We Can Do About It. Oxford Review of Economic Policy, 25(3), 344–367. See a second reference for the author: Flyvbjerg, Bent, & Gardner, Dan (2023). How Big Things Get Done: The Surprising Factors That Determine the Fate of Every Project, from Home Renovations to Space Exploration and Everything in Between. Currency: Penguin Random House.
[6]. Transparency International. (2016). Global Corruption Report: Sport. Routledge.
[7]. Crompton, John. L. (1995). “Economic Impact Analysis of Sports Facilities and Events: Eleven Sources of Misapplication.” Journal of Sport Management, 9(1), 14–35. https://doi.org/10.1123/jsm.9.1.14
[8]. Boykoff, John. (2016). Power Games: A Political History of the Olympics. London : Verso Books.Op. Cit.