الاستثمارات التي يحتاجها المغرب اليوم
بين رهانات المستقبل وفخ المشاريع الاستعراضية


بقلم: د. محمد السنوسي..
يقف المغرب اليوم عند منعطف تاريخي حاسم: إما أن يختار طريق الاستثمار في المستقبل بما يضمن له السيادة الاقتصادية والمكانة الجيوسياسية، أو يواصل تبديد موارده في مشاريع استعراضية براقة سرعان ما تخفت أضواؤها بعد انتهاء لحظة الفرجة. لقد آن الأوان للخروج من عقلية “البهرجة اللحظية” إلى بناء “الدعائم الاستراتيجية”، فالأمم لا تُقاس بعدد ملاعبها ومهرجاناتها، بل بقدرتها على صناعة المعرفة، وتأمين الغذاء والدواء، وحماية أمنها الرقمي والدفاعي.
إن المشاريع ذات الطابع الاستعراضي، مهما منحت من بريق إعلامي أو وفّرت جرعة فرجوية آنية، تبقى محدودة الأثر ولا تصمد أمام اختبار الزمن. التنمية الحقيقية لا تُبنى بالإسمنت وحده ولا بالصورة البراقة، بل بتشييد منظومات راسخة في التعليم والبحث العلمي، وبناء اقتصاد غذائي ومائي متين، وتطوير صناعة خضراء تضمن استقلال القرار الطاقي، وصياغة قوة رقمية ودفاعية تحمي الأمن الوطني.
المفارقة أن المغرب، وهو مقبل على احتضان تظاهرات كبرى مثل كأس العالم 2030، يخصص مليارات لتشييد أو تجديد الملاعب بينما يظل المواطن يعاني من ضعف الخدمات الصحية، ومن منظومة تعليمية تحتاج إصلاحاً عميقاً. لا أحد ينكر أهمية الرياضة أو الفنون في حياة الشعوب، لكن السؤال الذي يفرض نفسه: هل تُعد هذه الأولويات رافعة حقيقية للتنمية، أم مجرد أوراش عابرة سرعان ما تفقد قيمتها بعد انتهاء الحدث؟
التحدي الأكبر اليوم هو الانتقال من منطق الاستهلاك اللحظي إلى منطق البناء الاستراتيجي، ومن عقلية الفرجة إلى عقلية الإنتاج. المغرب يملك كل المقومات: شباب طموح، موقع جغرافي استثنائي، موارد طبيعية متنوعة، وشبكة شراكات دولية واسعة. لكن ما ينقصه هو الإرادة الحازمة لترتيب سلم الأولويات، والجرأة على اختيار الاستثمار في الإنسان والمعرفة والاقتصاد المستدام بدل اللهاث وراء مشاريع استعراضية قد تُرضي العين مؤقتاً لكنها لا تُؤمّن المستقبل.
- التعليم والصحة في مواجهة “البنية الإسمنتية الفارغة“
أي مشروع للتنمية، إذا لم يكن مؤسساً على تعليم نوعي ومنظومة صحية قوية، يظل مشروعاً أعرج مهما بدا براقاً في واجهته. فالتاريخ علّمنا أن الأمم التي صمدت أمام الأزمات هي تلك التي وضعت الإنسان، بعقله وصحته وإبداعه، في قلب المعادلة، بينما تحوّلت الأمم التي راهنت على “الواجهة الإسمنتية” وحدها إلى كيانات هشة تنهار عند أول عاصفة.
المفارقة التي يعيشها المغرب اليوم صارخة: المليارات تُصرف لبناء ملاعب ضخمة تُستعمل موسميًا أو تُملأ بضجيج المباريات لأسابيع معدودة، في حين تنزف الجامعات من ضعف ميزانيات البحث العلمي وتهاجر كفاءاتها إلى الخارج بحثاً عن بيئات حاضنة، في الوقت نفسه، المستشفيات تكاد تستغيث بسبب نقص الأطر الطبية والتجهيزات الأساسية، ما يجعل المواطن العادي يواجه صعوبات يومية للوصول إلى علاج كريم أو خدمات صحية لائقة، مع تفاقم الفوارق الجغرافية بين المدن الكبرى والمناطق الريفية والبوادي، ما يعكس غياب العدالة الصحية على المستوى الوطني.
هنا يفرض السؤال نفسه بحدة ووضوح: أيهما أولى لمستقبل المغرب؟ أن نستثمر في مدارس تُخرّج علماء ومبتكرين قادرين على بناء اقتصاد الغد، ومستشفيات قوية تحمي المواطن من الانكسار أمام الأوبئة والأزمات، أم أن نُنفق المليارات في مدرجات فارغة بعد صافرة النهاية، تتآكل إسمنتها تدريجيًا وتستنزف موارد طائلة للصيانة دون أي عائد حقيقي، بينما يظل رأس المال البشري مهملاً، وكأنه آخر الأولويات؟
إن المفاضلة ليست مجرد مسألة مالية، بل مسألة خيار استراتيجي: هل نريد مغرباً يُنافس في تصدير العقول والأفكار والحلول الطبية والتكنولوجية، أم مغرباً يكتفي بتصدير صور الملاعب والاحتفالات؟ في عالم تتسارع فيه التحولات المناخية والوبائية والرقمية، يصبح الاستثمار في الإنسان هو الضمانة الوحيدة للسيادة والاستقرار، بينما الاستثمار في “الإسمنت الاستعراضي” لا يملك سوى عمر قصير محكوم بانتهاء الحدث الذي بُني من أجله.
إن بناء مدرجات قد يجلب لحظة فخر عابرة، لكن بناء عقل سليم وجسم معافى هو ما يجلب مستقبل أمة.
- الطاقات المتجددة في مواجهة “الإسمنت الرياضي“
الطاقات المتجددة لم تعد مجرد خيار بيئي أو شعارًا للسياسات الخضراء، بل أصبحت اليوم محورًا استراتيجيًا يُعيد رسم خريطة القوة الاقتصادية والجيوسياسية. المغرب برهن على طموحه في هذا المجال، خصوصًا مع إطلاق مشروع “نور ورزازات”، الذي اعتُبر عند تدشينه أحد أكبر مجمعات الطاقة الشمسية في العالم. ومع ذلك، تظل المفارقة الكبرى قائمة: هذا المشروع الطموح لم يتحوّل بعد إلى قاعدة صناعية وطنية متكاملة. لا توجد صناعة محلية متطورة للألواح الشمسية أو البطاريات، ولا منظومة بحث علمي متقدمة تواكب التحولات التكنولوجية العالمية في مجالات مثل الهيدروجين الأخضر أو تخزين الطاقة. والنتيجة: يظل المغرب مُستوردًا للتقنيات بدلاً من أن يكون منتجًا ومصدّرًا لها، مع ما يترتب على ذلك من تبعية واستنزاف اقتصادي.
الاستثمار الحقيقي في الطاقات المتجددة لا يكمن في شعارات أو مشاريع رمزية، بل في بناء “سيادة طاقية” تضع المغرب كرقم صعب في معادلة الانتقال الطاقي العالمي. أوروبا نفسها تبحث عن شريك جنوبي موثوق يؤمن لها حاجتها المتزايدة من الهيدروجين الأخضر والكهرباء النظيفة، والمغرب يمتلك كل المؤهلات ليكون هذا الشريك الاستراتيجي. لكن هذا لن يتحقق إلا إذا انتقل المغرب من منطق المشاريع العرضية والمظاهر الرمزية إلى منطق “الصناعة الوطنية المتكاملة”، حيث تُستثمر الجامعات ومراكز البحث العلمي، ويُشرك الشباب والقطاع الخاص في تحويل الطاقات المتجددة من مجرد مشاريع ضخمة على الورق إلى رافعة اقتصادية وسياسية حقيقية، تضمن له الاستقلالية، وتعزز مكانته على الساحة الإقليمية والدولية.
- الأمن الغذائي في مواجهة “الأوراش الموسمية“
الأمن الغذائي في المغرب تجاوز كونه مجرد قضية قطاعية ليصبح مقياسًا حقيقياً لقدرة الدولة على حماية سيادة الوطن واستدامة استقراره الاجتماعي والاقتصادي. الفلاحة المغربية اليوم تواجه تحديات جسيمة، تتراوح بين تأثيرات تغير المناخ والجفاف المتكرر، إلى ضعف البنية التحتية الزراعية وعدم كفاية الاستثمارات المستدامة. المفارقة تكمن في أن الموارد المالية غالبًا ما تُستنزف في مشاريع استعراضية مؤقتة، مثل الملاعب والمنشآت الرياضية التي يزول أثرها بعد انتهاء المناسبات، دون أن تترك قاعدة صلبة تدعم الاقتصاد الوطني أو تعزز القدرة الإنتاجية للفلاحين. الحكمة تقتضي أن تُستثمر الأموال في بناء منظومة غذائية قوية، تراعي البعد البيئي والتكنولوجي، وتضمن للأجيال القادمة غذاءً آمناً واستقلالية اقتصادية حقيقية.
الرهان الاستراتيجي الحقيقي يكمن في الانتقال من منطق الاستثمارات اللحظية إلى بناء منظومة زراعية متكاملة. هذا يشمل تطوير البنية التحتية للمياه، عبر تحلية مياه البحر ونظم ري ذكية، وإدخال تكنولوجيات زراعية مقاومة للمناخ، مثل الزراعة الرقمية والزراعة العمودية، لضمان استمرارية الإنتاج حتى في ظل الظروف المناخية الصعبة.
إلى جانب ذلك، لا يمكن تحقيق الأمن الغذائي دون تثمين المنتوجات الزراعية والبحرية محلياً وصناعياً، بما يحول المواد الخام إلى منتجات ذات قيمة مضافة، ويخلق حلقات إنتاجية مستدامة قادرة على دعم الاقتصاد الوطني. هذا التوجه يعزز القدرة على مواجهة الصدمات العالمية ويحد من الاعتماد على الاستيراد في قطاعات أساسية مثل الغذاء.
من منظور استشرافي، الاستثمار في الأمن الغذائي ليس مجرد حماية من المخاطر الحالية، بل فرصة لجعل المغرب مركزاً إقليمياً للابتكار الزراعي وتقنيات مواجهة التغير المناخي. يمكن أن يتحول القطاع إلى مختبر للتجارب الزراعية الذكية على مستوى إفريقيا والعالم العربي، مع إمكانات كبيرة للتمويل الدولي والشراكات العلمية والتقنية.
الأمن الغذائي إذن ليس رفاهية أو خياراً، بل قضية سيادة وطنية واستثمار مستقبلي. المشاريع الاستعراضية، مهما كانت براقتها، لن تصنع الاستقرار ولا القوة الاقتصادية، بينما الأرض والمياه والتقنيات الزراعية هي ما يضمن بقاء المغرب قوياً ومستقلاً ومستعداً لعقود قادمة من التحولات المناخية والاقتصادية.
- الاقتصاد الرقمي في مواجهة “اقتصاد الفرجة“
المغرب يمتلك واحدة من أهم الموارد المستقبلية: شبابه المبدع وطاقاته الرقمية. إلا أن هذا الرصيد الثمين غالباً ما يُهدر بسبب غياب التخطيط الاستراتيجي المتكامل، وبالاعتماد على مشاريع استعراضية قصيرة المدى، مثل المهرجانات الفنية والفعاليات السياحية الكبرى، التي تمنح تأثيراً لحظياً على الاقتصاد لكنها لا تبني قاعدة معرفية أو صناعية مستدامة.
الرهان الحقيقي يكمن في الانتقال من اقتصاد الفرجة إلى اقتصاد المعرفة والابتكار الرقمي، حيث يمكن للشباب المغربي أن يتحول إلى قوة عالمية في مجالات الذكاء الاصطناعي، البرمجيات، الألعاب الإلكترونية، وتحليل البيانات الضخمة. الاستثمار في هذا القطاع لا يعني مجرد دعم شركات ناشئة، بل بناء منظومة متكاملة تشمل حاضنات تكنولوجية، مراكز تدريب متقدمة، شبكات بحث وتطوير، وتشبيك الجامعات المغربية مع نظيراتها الدولية.
من منظور استشرافي، الاقتصاد الرقمي يمكن أن يصبح رافعة للسيادة الاقتصادية، ليس فقط من خلال العوائد المالية، بل عبر التحكم في البيانات، التكنولوجيا، والأمن السيبراني، وهي عناصر مركزية في أي قوة اقتصادية مستقبلاً. بالمقابل، الاستثمار في مشاريع استعراضية يعطي نتائج مؤقتة، ويستنزف الموارد دون خلق بنية تحتية معرفية أو صناعية مستدامة.
الاستراتيجية الأمثل هي دمج الطاقات الرقمية مع أهداف التنمية الوطنية: رقمنة الزراعة والصناعة والخدمات، تطوير منصات تعليمية رقمية دولية، ودعم مشاريع ابتكار مغربي قادرة على التنافس عالمياً. بهذا الأسلوب، لا يُنظر إلى الاقتصاد الرقمي كقطاع تقني فحسب، بل كأداة تحويلية للبنية الاقتصادية والاجتماعية، وقاعدة لبناء استقلالية تكنولوجية وابتكارية للمغرب على المدى الطويل.
في النهاية، اقتصاد الفرجة قد يمنح الشهرة المؤقتة، بينما الاقتصاد الرقمي والتحولات المعرفية هو ما يخلق الثروة المستدامة، يوفر وظائف عالية القيمة، ويضع المغرب على خريطة الاقتصاد العالمي بقوة وسيادة حقيقية. المستقبل ليس في الإبهار اللحظي، بل في القدرة على بناء منظومة معرفية رقمية متكاملة تجعل المملكة لاعباً محورياً في الاقتصاد الرقمي العالمي.
- رهانات استراتيجية
يقف المغرب اليوم أمام فرصة تاريخية لإعادة صياغة موقعه الاستراتيجي على الساحة الإقليمية والدولية، بعيداً عن المشاريع الاستعراضية القصيرة الأمد. الرهانات الاستراتيجية تتجاوز البهرجة اللحظية، لتتمحور حول بناء قوة سيادية واقتصادية متينة قادرة على مواجهة تحولات القرن الحادي والعشرين.
أولاً، الصناعات الدفاعية والأمن السيبراني تمثل حجر الزاوية للسيادة الوطنية. المغرب قادر على تطوير صناعة محلية للطائرات المسيّرة، البرمجيات الأمنية، وأدوات الذكاء الاصطناعي العسكري، بدل الاعتماد التقليدي على الاستيراد. الاستثمار في هذه المجالات لا يحمي الأمن القومي فحسب، بل يخلق منظومة صناعية متقدمة ويدعم الابتكار المحلي ويخلق فرص عمل عالية القيمة.
ثانياً، الاقتصاد الأزرق يشكل فرصة استراتيجية هائلة. بسواحل تتجاوز 3,500 كلم، يمكن للمملكة أن تصبح قوة متوسطية وإفريقية في مجالات تربية الأحياء البحرية، الطاقات المائية، النقل البحري، والصناعات التحويلية البحرية. هذا القطاع لا يعزز الاقتصاد فقط، بل يضمن الأمن الغذائي ويحفز البحث العلمي والتقني المرتبط بالموارد البحرية.
ثالثاً، صناعة الدواء والتكنولوجيا الحيوية ليست رفاهية، بل ضرورة بعد تجربة كوفيد-19 العالمية. بناء صناعة وطنية للأدوية واللقاحات يضمن الاستقلال الصحي، ويحول المغرب إلى مركز إقليمي لتكنولوجيا الصحة والابتكار البيولوجي، مع قدرة على المنافسة في السوق الإفريقية والعالمية.
رابعاً، التكنولوجيا الزراعية ومواجهة تغير المناخ تمنح المغرب فرصة ليصبح مختبراً إفريقياً للابتكار في الزراعة الذكية والزراعة المقاومة للمناخ، من نظم الريّ الرقمي إلى الزراعة العمودية والطائرات المسيّرة للمراقبة. هذا الاستثمار يفتح آفاق تمويل دولي وشراكات علمية، ويعزز الأمن الغذائي المحلي.
خامساً، السياحة المستدامة يجب أن تتحول من مجرد فرجة موسمية إلى رافعة ثقافية وبيئية وعلمية. التركيز على السياحة التراثية، البيئية، والمؤتمرات العلمية يضمن دخل مستدام ويعزز العلامة الوطنية للمغرب كوجهة استراتيجية متعددة الأبعاد.
سادساً، الاقتصاد الدائري وإعادة التدوير يمثل فرصة حقيقية لتحويل التحديات البيئية إلى ثروة. ملايين الأطنان من النفايات يمكن أن تتحول إلى مواد خام صناعية، طاقات متجددة، وفرص عمل، ما يجعل الاقتصاد أكثر مرونة واستدامة
سابعًا: تحويل المشاريع البارزة إلى محركات للنمو الاقتصادي
ميناء طنجة المتوسط وخط القطار فائق السرعة TGV يبرزان كمشاريع بنية تحتية استراتيجية ناجحة، لكن قيمتهما الحقيقية لا تُقاس بالإنشاءات وحدها، بل بمدى تكاملهما مع منظومات إنتاجية وصناعية متطورة تحوّلهما إلى دينامية اقتصادية مستدامة. هذه المشاريع، عندما تُستثمر بشكل صحيح، يمكن أن تصبح شريانًا للنمو الوطني، موفّرة فرص عمل، ومحفزة للابتكار والاستثمار. بالمقابل، الملاعب والبنايات الضخمة، رغم بريقها الإعلامي، غالبًا ما تظل واجهات استعراضية، تستهلك الموارد دون أن تضيف قيمة حقيقية للاقتصاد على المدى الطويل، محوّلة الاستثمار إلى استهلاك لحظي بدل أن يكون رافعة دائمة للتنمية.
أخيراً، البنية التحتية الرقمية الإفريقية يمكن أن تجعل المغرب جسراً رقمياً بين أوروبا وإفريقيا، من خلال مراكز بيانات، كابلات بحرية، وشركات اتصالات عابرة للحدود. هذا التوجه يعزز دور المغرب كمحور تقني واستراتيجي في القارة، ويفتح أمامه سوقاً ضخمة للخدمات الرقمية والاستثمار التكنولوجي.
باختصار، هذه الرهانات الاستراتيجية تمثل خارطة طريق للمغرب بعيداً عن المشاريع الاستعراضية العابرة. الاستثمار في الصناعات الدفاعية، الاقتصاد الأزرق، التكنولوجيا الحيوية، الزراعة الذكية، السياحة المستدامة، الاقتصاد الدائري، والبنية الرقمية هو ما يصنع السيادة، الاستدامة، والقدرة التنافسية على المدى الطويل، ويضع المغرب في قلب التحولات الاقتصادية والتقنية الإقليمية والدولية.
توصيات لمغرب المستقبل
المغرب اليوم أمام لحظة حاسمة لتحديد مسار استراتيجي طويل الأمد، بعيداً عن المشاريع العابرة والمظاهر الاستعراضية. ولتحقيق ذلك، يمكن تلخيص الأولويات في المحاور التالية:
- إعادة ترتيب الأولويات الوطنية: الانتقال من الاستثمار الرمزي في مشاريع مؤقتة مثل الملاعب والمهرجانات، إلى الاستثمار الاستراتيجي في القطاعات الحيوية التي تصنع السيادة الوطنية، مثل التعليم النوعي، الصحة المتينة، الطاقات المتجددة، الأمن الغذائي، الاقتصاد الرقمي، الصناعات الدفاعية والتكنولوجية المتطورة. هذا التحول يضمن استمرارية التنمية ويجعل المغرب قوة رائدة قادرة على مواجهة تحديات المستقبل.
- تحويل استضافة كأس العالم 2030 إلى رافعة استراتيجية: بدلاً من إنفاق مليارات على ملاعب قد تصبح فارغة بعد البطولة، يمكن توجيه الاستثمارات نحو بناء بنية تحتية مستدامة تشمل النقل الأخضر، البناء الصديق للبيئة، التكنولوجيا الحديثة، والسياحة الثقافية المستدامة. بهذا الأسلوب، يتحول حدث عالمي محدود المدة إلى محفز طويل الأمد للاقتصاد الوطني.
- إشراك الكفاءات الوطنية ومغاربة العالم: الاستفادة من خبرات الكفاءات في الداخل والخارج ليس خياراً ترفيهياً، بل ضرورة لضمان التخطيط السليم والتنفيذ الفعال للمشاريع الاستراتيجية، مع ضمان استمرارية الملكية الجماعية للمبادرات الوطنية.
- اعتماد رؤية استشرافية شاملة: وضع المغرب على مسار القوة الإقليمية المستدامة يتطلب التفكير بعيد المدى، وتطوير قدرات تنافسية في القطاعات الحيوية، بما يجعل المملكة لاعباً محورياً في الاقتصاد والمعرفة على المستويين الإقليمي والدولي، لا مجرد وجهة لمناسبات ظرفية.
خاتمة
إن المغرب اليوم لا يفتقر إلى الطاقات ولا إلى الموارد ولا إلى الرصيد الحضاري العميق، وإنما يفتقر إلى البوصلة التي تعيد ترتيب الأولويات وتحرر السياسات العمومية من أسر الظرفية والاستعراض. إن الأمم العظيمة لا تُقاس بعدد ملاعبها أو حجم مهرجاناتها، بل بقدرتها على أن تصنع ذاتها من الداخل، وأن تُحوِّل مواردها إلى قوة منتجة للمعرفة، للثروة، وللسيادة.
لقد آن الأوان لأن نخرج من منطق “المشاريع الرمزية” إلى منطق “البناء الاستراتيجي”. فالتعليم ليس مجرد قطاع، بل هو أساس تحرير الإنسان من قيود التبعية، والصحة ليست خدمة اجتماعية فحسب، بل ركيزة للأمن الوطني. الطاقات المتجددة ليست مجرد خيار بيئي، بل جسر نحو السيادة الطاقية والشراكة الندية مع القوى العالمية. الأمن الغذائي لم يعد قضية تقنية، بل بات عنواناً لسيادة الدولة واستقرارها. أما الرقمنة والصناعات السيادية، فهي ساحة المعركة المقبلة حيث تتحدد مواقع الدول في النظام الدولي الجديد.
إن المغرب مدعو اليوم إلى أن يحوّل مشاريعه الكبرى إلى دينامية اقتصادية متكاملة، تربط الموانئ والممرات التجارية بخريطة صناعية صلبة، وتربط القطار السريع بمنظومات إنتاجية وبحثية، وتربط الاستثمار الطاقي بالصناعة الوطنية والمعرفة المحلية. ذلك أن البنية التحتية بلا منظومة إنتاج ليست سوى “قطارات فارغة”، تماماً كما أن الملاعب الفارهة بلا رأس مال بشري واعٍ ليست سوى “مدرجات خاوية”.
الرهان إذن ليس أن نُبهر العالم لأيام معدودة، بل أن نصنع وطناً يملك قراره لعقود وقرون. والاختيار أمامنا واضح: إما أن نستثمر في الاستمرارية والسيادة، وإما أن نظل رهائن لأضواء عابرة تنطفئ سريعاً لتترك وراءها موارد مهدورة وفرصاً ضائعة.
إن هذا نداء للتفكير العميق، وللجرأة في إعادة ترتيب السياسات، وللاستشراف الذي يجعل من المغرب مشروع أمة صاعدة، لا مجرد مسرح لاحتفالات موسمية. فلنكن على قدر التاريخ، ولنجعل من اللحظة الراهنة نقطة تحول نحو مغرب ينهض بثقة، ويثبت أقدامه في عالم لا يرحم الضعفاء ولا يترك مكاناً إلا للأقوياء الممسكين بزمام مصيرهم.