مرتكزات بناء النخبة الوطنية لمواجهة تحديات العصر
منهج التفكير خارج الصندوق وتحليل الواقع بعيون المستقبل


بقلم: د. محمد السنوسي..
مقدمة: حين يصبح التفكير في النخبة ضرورة للبقاء لا ترفًا فكريًا
نحن لا نعيش في زمن تتغير فيه التفاصيل، بل في عصرٍ تتبدّل فيه قواعد اللعبة. عالم تتهاوى فيه الثوابت، وتسيل فيه المعايير بين تحوّلات جيوسياسية غير مسبوقة، واقتصادات معولمة غير مستقرة، وهويات مجتمعية تتعرض لتآكل ناعم بفعل الاستلاب الثقافي والتشظّي الرمزي. في هذا السياق المتداخل والمعقّد، لم تعد المجتمعات تواجه أزمات عابرة، بل تعيش إعادة تشكيل عميقة لذاتها، ولأسئلة وجودها ومعناها.
في قلب هذا المشهد، لم تعد النخبة ترفًا للخطاب أو واجهة للتمثيل، بل أداة مصيرية لإعادة ضبط الاتجاه الوطني. لقد أصبح التفكير في النخبة، ومن جديد، شرطًا من شروط النجاة المجتمعية، لأن المجتمعات التي تعجز عن إنتاج نخب جديدة، تُسلِّم زمامها، طوعًا أو كرهًا، لموجات التفكك أو التبعية.
لكن، أيّ نخبة نريد؟
ليس المطلوب نخبًا ورقية تسكن المؤسسات، ولا وجوهًا مألوفة تتكرر في الشاشات، بل نخبة تفكر خارج الصندوق، تُحسن قراءة الزمن، وتستشرف ما بعد أفقه الظاهر. نخبة تعرف أن الشرعية لا تُكتسب من الألقاب، بل من الأثر. وأن الزعامة لا تُقاس بالصوت العالي، بل بالقدرة على بناء الإجماع وتوجيه المستقبل.
لقد أثبتت النخب التقليدية فشلها، لا فقط في الأداء، بل في صيغة إنتاجها ذاتها؛ إذ ارتبطت بمنطق الامتياز لا بمنطق الكفاءة، وبالنفوذ لا بالمسؤولية، وبالرمز لا بالفعل. واليوم، لم يعد السؤال هو: من يمثل النخبة؟ بل: كيف نعيد هندسة النخبة من الأساس؟ وكيف نحولها من مركز امتياز، إلى شبكة فاعلة تُنتج الحلول وتُعيد ترميم الثقة المجتمعية؟
هذه الورقة تحاول أن تجيب عن ذلك، لا من موقع النقد الساكن، بل من منطلق الرؤية التحليلية والاستشرافية، لتقديم مرتكزات خمس تمكّن من الانتقال إلى جيل جديد من النخب: نخب تفكّر، تتغيّر، وتُغيّر.
أولًا: إعادة تعريف النخبة وفق منطق التحوّل لا الامتياز
إنّ الحديث عن النخبة في الزمن التحوّلي لا يمكن أن يبقى أسيرًا لمنطق الامتيازات التقليدية، سواء كانت ورقية (الشهادات)، رمزية (الخطابة)، أو مؤسسية (المناصب). فالرهان الحقيقي اليوم ليس على من “يمتلك الموقع”، بل على من “يصنع الأثر”. بهذا المعنى، فإن النخبة لم تعد طبقة اجتماعية أو نُخبة “تمثيل”، بل أصبحت وظيفة تحليلية وتغييرية، تُقاس بقوة تأثيرها على الواقع واستجابتها للتحديات الوطنية والكونية المتغيرة.
- من شرعية الامتياز إلى شرعية الإنجاز
التحول المفاهيمي الذي نحتاجه يبدأ بتحرير الكفاءة من سلطة الامتياز الشكلي. فالعصر الرقمي كشف زيف العديد من أشكال “الشرعية الرمزية”، التي ارتبطت بالشهادات العليا أو بالمواقع الرسمية، دون أن تقابلها فاعلية حقيقية على الأرض. في المقابل، هناك فاعلون جُدد – من شباب، مفكرين خارج الصندوق، روّاد أعمال، مبتكرين رقميين، وممارسين ميدانيين – يُنتجون الأثر دون أن تمنحهم النخبة التقليدية الاعتراف أو الشرعية.
ولذلك، لا بد من إعادة تعريف الكفاءة بمعايير جديدة تشمل:
- القدرة على المبادرة والابتكار.
- التحول من التنظير إلى التنفيذ.
- قوة الحضور المجتمعي لا فقط المؤسسي.
- حجم التأثير القاعدي لا حجم الخطاب النخبوي.
- إدماج الفاعلين الجدد في “اقتصاد التأثير الوطني“
النخبة الجديدة لا يمكن أن تتشكل دون الاعتراف بالتحولات العميقة في بنية التأثير نفسها. صانع المحتوى الواعي، الناشط الرقمي المسؤول، المبرمج المبدع، المربي التربوي المجدد… هؤلاء لم يعودوا على الهامش، بل باتوا عناصر محورية في تشكيل الرأي العام وتوجيه السلوك الاجتماعي. تجاهل هؤلاء، تحت ذريعة “النقص في الشرعية التقليدية”، يعكس عمى استراتيجيًا في فهم زمن الشبكات والمجتمعات التفاعلية.
لذا، فإن دمج هؤلاء الفاعلين في المعادلة النخبوية يستدعي:
- بناء جسور بين الفضاء الرقمي والمؤسسات التقليدية.
- مأسسة “المحتوى الهادف” كجزء من صناعة السياسات الثقافية.
- تحفيز شراكات استراتيجية بين الدولة وصنّاع الأثر الرقمي.
- تفكيك المركزية المعرفية والجغرافية: نحو عدالة في إنتاج النخبة
إنّ جزءًا كبيرًا من فشل النخبة التقليدية يعود إلى نمط إنتاجها المركزي، سواء من حيث الجغرافيا (العواصم والمدن الكبرى) أو من حيث المعرفة (الجامعات والبيروقراطيات الأكاديمية). لكن الواقع أظهر أن الهوامش باتت تحتضن كفاءات صامتة لم يُتح لها الانكشاف أو التمكين. لقد آن الأوان للخروج من مركزية “الفضاء النخبوي” نحو عدالة معرفية وجغرافية.
وهذا يتطلب:
- تصميم سياسات وطنية لاكتشاف ورعاية النخب في الأرياف والمناطق الطرفية.
- تحفيز مؤسسات المجتمع المدني للعمل كـ”رادارات كفاءة” في البيئات المحلية.
- إطلاق منصات وطنية لعرض المبادرات والمشاريع الريادية من الأطراف.
- من الفرد المهيمن إلى “المنظومات النخبوية“
في عالم التعقيد المتداخل، لم يعد الفرد – مهما بلغ من ذكاء – قادرًا على الإحاطة بكل أبعاد الواقع. وهنا تبرز الحاجة إلى تحوّل جذري في بنية النخبة: من “النخبة الفرد” إلى “المنظومات النخبوية“، أي شبكات تفاعلية عابرة للتخصصات والقطاعات، تُنتج الأفكار بطريقة تشاركية، وتُفعّل الذكاء الجمعي لصياغة الحلول.
المنظومة النخبوية الناجحة يجب أن:
- تجمع بين المنهج الاستشرافي، التحليل السياسي، والرؤية الاقتصادية، والفهم الثقافي، والابتكار الرقمي.
- تتحرك في بيئات تشاركية لا هرمية.
- تعتمد على نماذج الحوكمة الشبكية، لا المركزية التقليدية.
- مقترحات عملية لتفعيل هذا المرتكز
- إطلاق منصة رقمية وطنية لتصنيف وتوثيق التجارب النخبوية المؤثرة بغض النظر عن خلفيات أصحابها.
- تأسيس “حاضنات نخب” في الجامعات والأقاليم لاكتشاف وتنمية القيادات الصاعدة.
- إدماج النخب القاعدية والرقمية في المجالس الاستشارية وصناعة القرار المحلي.
- إدماج النخب المهاجرة في المجالس التشريعية والاستشارية وصناعة القرار الوطني.
- تطوير مؤشرات وطنية جديدة لقياس “الأثر النخبوي” في مجالات مثل التعليم، البيئة، الوعي المجتمعي، والابتكار.
النخبة في زمن التحوّل لم تعد حالة نخبوية مغلقة، بل شبكة دينامية من الفاعلين والمبدعين والمؤثرين الحقيقيين. وشرعيتها لا تُستمد من الورق أو المنصب، بل من الصدق في الالتزام والفاعلية في الإنجاز. إنّ إعادة تعريف النخبة وفق منطق التحول هو الخطوة الأولى في بناء “عقد نخبوية جديدة”، تُعيد ثقة المجتمع بنفسه، وتُطلق طاقات المستقبل من حيث لم نكن نرى النخبة من قبل.
ثانيًا: من النخبة المُنظِّرة إلى النخبة المُفكِّرة — من الخطاب إلى التحليل التحويلي
في لحظة تاريخية تعيش فيها المجتمعات تشابك الأزمات وتسارع التغيرات، لم يعد مقبولًا الاكتفاء بنخب تُراكم الخطابات وتُجيد التنظير. المطلوب هو نخبة تحليلية فاعلة، قادرة على تحويل التشويش المعرفي إلى خرائط استبصار، وتعقيد الوقائع إلى رؤى استراتيجية قابلة للتنفيذ.
ملامح النخبة المفكِّرة:
- تفكيك الواقع لا تجميله: تتعامل مع الوقائع كأنظمة مفتوحة للتحليل لا كمسلمات مقدسة.
- تحويل البيانات إلى قرارات: توظّف علم البيانات، الاقتصاد السلوكي، والذكاء الاصطناعي لتوليد سيناريوهات دقيقة.
- بناء أدوات فهم لا فقط أدوات تعبير: تنتقل من اللغة الرنّانة إلى أدوات التفسير والتحليل العميق والاستشراف الهادف.
مشاريع ومقترحات لتفعيل هذا التحوّل:
- إدماج مهارات التحليل المنهجي في التعليم منذ الطفولة:
- من خلال مناهج تعتمد على التفكير النقدي، حل المشكلات، تحليل الأخبار، وتقييم المصادر.
- تأسيس “مراكز تفكير من الجيل الثالث”:
- لا تكتفي بتقديم الأوراق، بل تُصمّم قرارات تجريبية، وتُحاكي المستقبل.
- تدمج التحليل الكمي والنوعي، وتعمل وفق منطق الشبكات لا الهرمية.
- بنك وطني للعقول التحليلية:
- منصة استراتيجية تُضم نخبة المفكرين الاستشرافيين والمحللين من مختلف القطاعات، تكون جاهزة لدعم صانع القرار في الأزمات، عبر منظومات تحوّلية لا استشارية فقط.
ثالثًا: من الهوية الساكنة إلى الهوية الذكية — نحو مرونة معرفية إنتاجية
في عالم الهويات المتغيرة والتفاعلات الثقافية العابرة، لم تعد الهوية الوطنية كيانًا ثابتًا يُدافع عنه بالانغلاق، بل أصبحت أداة استراتيجية للموقع والابتكار. النخبة المنفتحة معرفيًا لا تفقد جذورها، بل تُعيد تعريفها ضمن سياق عالمي ديناميكي.
ملامح الهوية الذكية:
- تحتضن التعدّد وتُنتج خطابًا تجسيريًا.
- تربط الماضي بالمستقبل، والتقاليد بالتقنية.
- تحوّل الإرث الثقافي إلى منتجات معرفية واقتصادية وإعلامية.
سبل ترسيخ هذه الهوية في النخبة الجديدة:
- إدماج التعددية المعرفية في تكوين النخب:
- برامج تربط بين العلوم الدقيقة والإنسانية، وبين الفنون والتكنولوجيا.
- إطلاق مشروع “التراث المُبتكر“:
- تحويل القيم الثقافية إلى تطبيقات، ألعاب، أفلام، محتوى ذكي، ومنصات تعليمية.
- تأسيس منصات للحوار الحضاري الرقمي:
- حيث يتفاعل الشباب من مختلف المرجعيات، ويعيدون إنتاج خطاب الهوية بصورة مرنة وغير دوغمائية.
رابعًا: من الهيبة إلى المسؤولية التشاركية — من القوة العمودية إلى القيادة الخدمية
ما يميّز النخبة القائدة في المجتمعات المستقرة ليس حجم النفوذ، بل عمق الإحساس بالمسؤولية تجاه الجماعة. ولذلك، النخبة الجديدة يجب أن تتجاوز نموذج “النخبة الفوقية” التي تتعامل مع المجتمع كمُتلقٍ، نحو نموذج “الخادم القائد” الذي يخدم بالمعرفة، ويقود بالتواضع، ويُحفّز لا يُسيطر.
سمات هذه القيادة:
- تستند إلى النزاهة لا إلى الألقاب.
- تستمد شرعيتها من الثقة لا من الهيبة الشكلية.
- تخضع للمساءلة الأخلاقية، وتعمل في الضوء لا في الظل.
خطوات لتجذير هذه المسؤولية:
- تصميم مدوّنة قيم نخبويّة وطنية:
- ليست مجرد دليل أخلاقي، بل مرجعية تربط الأداء بالمصلحة العامة، وتفصّل مسؤولية النخبة تجاه البيئة، التعليم، العدالة، ومحاربة الفساد.
- مأسسة آليات الإصغاء المجتمعي:
- تنظيم منتديات دورية بين النخبة والمجتمع، تُبث مباشرة، وتُبنى عليها توصيات قابلة للمتابعة.
- تعليم مهارات القيادة الأخلاقية في مؤسسات إعداد النخب:
- كأن يُدرّس الطلاب في الكليات القيادية كيف “يصغون”، لا فقط كيف “يتكلمون”.
خامسًا: من مركزية القرار إلى مؤسسات التمكين — من الدولة الهرمية إلى الدولة الحاضنة للكفاءة
النخبة الحقيقية لا تنمو في فراغ، بل تحتاج إلى بيئة مؤسسية حاضنة، تُؤمن بالكفاءة لا الولاء، وتُطلق الإمكانات لا تُقيّدها. ولذا، فإن التحوّل من منطق الاحتكار إلى منطق التمكين هو المدخل لبناء نخب جديدة مستدامة.
ركائز مؤسسات التمكين:
- مرونة هيكلية تسمح بإدماج نخب من خارج النظام الرسمي.
- آليات تقييم ديناميكية ومفتوحة على التغذية الراجعة المجتمعية.
- قدرة على احتضان الفشل كخطوة ضرورية في طريق الابتكار.
خطوات تنفيذية لهذا التحول:
- تأسيس “وكالة تمكين النخب الوطنية”:
- هيئة مستقلة تكتشف الكفاءات أينما كانت، وتدعمها عبر التكوين، التمويل، والإرشاد.
- تشتغل بمنطق الشبكات لا المركزية، وتُنسّق مع الجامعات، مراكز البحث العلمي، البلديات، الحاضنات، والمجتمع المدني.
- تعميم التقييم المجتمعي المفتوح لأداء النخبة:
- عبر تقارير دورية منشورة، مؤشرات أداء شفافة، ومنصات تغذية راجعة شعبية.
- نقل صناعة النخبة إلى الجهات:
- عبر نظام تداول نخبوي لامركزي، يُمكّن كل جهة من بناء نخبها واختبارها محليًا، وتدويرها على المستوى الوطني لاحقًا.
ليست النخبة مجرد امتياز، بل وظيفة مجتمعية مركبة تتطلب قدرة على التأثير، خيالًا تحليليًا، التزامًا أخلاقيًا، وشراكة مؤسسية. والتحوّل إلى هذه النخبة الجديدة لن يكون تلقائيًا، بل يستدعي هندسة ذكية وشجاعة لكل من المفهوم، والمحتوى، والحاضنة. إنه مشروع وطني – لا نظري – لصناعة المستقبل.
خاتمة: نحو عقد اجتماعي نخبوي جديد – من الامتياز إلى الأثر
إن بناء نخبة وطنية جديدة لا يمكن أن يُختزل في مهمة مؤسسية أو قرار فوقي، بل هو مشروع وطني جماعي يتطلب إعادة تعريف العلاقة بين المجتمع، والمعرفة، والقيادة. إنه عقد اجتماعي جديد، قوامه الفاعلية لا الامتياز، والانتماء لا الاصطفاف، والتفكير الاستراتيجي التحويلي لا التكرار الوراثي.
ما نحتاجه اليوم ليس إعادة طلاء الواجهات النخبوية القديمة، بل تفكيك منطق الامتياز المغلق الذي أنتج نخبًا عاجزة عن مواكبة التحولات، بل في أحيان كثيرة ساهمت في تعميق الأزمات باسم الشرعية أو الخبرة أو القرب من السلطة.
إن هندسة النخبة الجديدة هي شكل من الثورة المعرفية الهادئة؛ ثورة على كل أشكال الاستعلاء الرمزي، والتكرار الفكري، والفساد الأخلاقي؛ وهي في الآن ذاته دعوة مفتوحة للاجتهاد الجماعي، تُعيد الاعتبار للكفاءة القادرة على الفعل، وللرؤية القادرة على الاستشراف، وللأخلاق التي تجعل من كل موقع مسؤولية لا امتيازًا.
من رماد النخبة التقليدية، تولد ضرورة التحول. ومن هشيم النمط القديم، تنبثق فرصة لإعادة بناء مركز القيادة المجتمعية، لا من فوق بل من داخل المجتمع نفسه. المطلوب اليوم ليس فقط نخبًا تتكلم لغة الناس، بل نخبًا تفكر بلغتهم، وتُبدع من واقعهم، وتبني المستقبل معهم لا نيابة عنهم.
إنها لحظة مفصلية: فإما أن نصوغ نخبتنا بعقولنا، على أرضيتنا، وبمقاييسنا؛ أو يُعاد تشكيلها من الخارج بمعايير لا تُعبّر عنّا. وبين الاحتمالين، تقف مسؤولية مؤسساتنا، وجامعاتنا، ومجتمعاتنا، وشبابنا، لصناعة نخبة تفكر وتبني وتُلهِم، لا فقط تُدير وتُنمّق.
نحن لا نبني مجرد “نخبة بديلة”، بل نؤسس لنمط جديد من القيادة الفكرية والاجتماعية، يكون فيه العقل التحليلي، والمنهج الاستشرافي، والضمير الأخلاقي، والانتماء الجمعي، ركائز لعقد نخبوّي يليق بالمستقبل.