في حوار مع صحيفة “صوت المتقاعد” خبير التأمينات والمعاشات عارف مصطفى صادق: إدماج صناديق التقاعد لن يؤدي إلى تحسين وضعية متقاعدي الغد

حاوره: محمد رضوان

صــــوت المتقــــاعد: المغرب مُقبل على استكمال مشروع إصلاح أنظمة التقاعد، لا شك أن الدافع إلى هذا الإصلاح هو الأزمة التي باتت تعرفها صناديق الاقتراع منذ سنوات، برأيكم ما الذي أدى إلى هذا الوضع، هل الأمر يتعلق بتطور بنية المجتمع، أم له علاقة بغياب الحكامة الرشيدة وحسن التدبير؟

عارف م. صادق – الواقع أن الصعوبات المالية لصناديق التقاعد بشكل عام هي التي دفعت الحكومات المتعاقبة إلى إطلاق سلسلة من الإجراءات الإصلاحية لوقف الاختلالات الدائمة التي سجلتها جميع أنظمة المعاشات التقاعدية؛ دائمًا ما يكون الافتقار إلى المال هو الذي يطلق الإنذار أو الشعور بالقلق. ما هو أصل هذه الاختلالات والصعوبات؟

لنبدأ بـ «القشة التي قصمت ظهر البعير» كما يقولون. لأنه غالبًا عندما تبدأ العيوب الأولى أو تظهر بعض مظاهر الفوضى في البناء ، يبدأ الناس يشعرون بالقلق بشأنها بينما يكون أصل المشكل في موضع آخر تمامًا.

سنذكر أولاً الجانب المرتبط ب «السن» في هذا التصور الذي سنقدمه. كما نعلم عندما ينكسر الجسر، فمن الواضح أن الضغوط التي يتعرض لها أثناء فيضان النهر أو الحمولة الزائدة، على سبيل المثال ، تكون هي السبب.

كما تتسبب شيخوخة السكان في زيادة الضغط على صناديق المعاشات التقاعدية. أولئك الذين كانوا يغذون تلك الصناديق يصبحون معتمدين في عيشهم عليها بعد تقاعدهم، ونتيجة لذلك يُحرِمُون هذه الصناديق من مساهماتهم لأنهم لم يعودوا «نشطين».

في حالة المغرب على وجه الخصوص، فإن ما أدى إلى تفاقم عدم التوازن الديموغرافي هو أنه لم يكن هناك تجديد في عدد الأفراد المساهمين بالمستوى المطلوب للحفاظ على التوازن بسبب ضعف قدرة الشركات على خلق فرص الشغل والوظائف.

والأكثر خطورة، ما رأيناه خلال الثلاثين عامًا الماضية من إغلاق العديد من الوحدات الكبيرة في القطاع الصناعي مقابل خلق شركات صغيرة لا توظف أكثر من شخصين إلى 5 أشخاص في قطاع الخدمات.

عندما نلقي نظرة فاحصة، فإننا نفهم سوء الإدارة كالتالي:

– كثيرا ما أسيء استخدام الموارد ، وفي بعض الأحيان تم استخدامها لتنفيذ العديد من المشاريع ذات الربحية الاقتصادية المشكوك فيها.

– توظيف الموارد المالية بمعدل مردودية منخفضة للغاية (مثلا الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي) مما حرم صناديق المعاشات التقاعدية الملزمة بإيداع أموالها مقابل سنتين.

– التخطيط غير الكافي لاستخدام الموارد على المدى الطويل.

– عدم مراقبة معايير الإدارة والتصحيح الضرورية (مثل عدم كفاية معدل الاشتراك من جانب صاحب العمل – أو من جانب الإدارة في حالة الصندوق المغربي للتقاعد).

– سلطة تنظيمية ورقابية حكومية غائبة مع مجالس إدارة «جامدة».

– عدم وجود رؤية طويلة الأجل لاختيار خطة المعاشات التقاعدية؛ توزيع أو رأسملة أو نظام مختلط.

صــــوت المتقــــاعد: هناك خطة لإدماج صناديق التقاعد في قطبين اثنين؛ عمومي وخاص، هل سيحسن ذلك من وضعية متقاعدي الغد؟

عارف م. صادق — لا ، للأسف، لن يؤدي الاندماج إلى تحسين الوضع لمتقاعدي الغد. إعادة التجميع تسمح ببساطة بالتخلص من تكاليف التدبير الخاطئة، ولا سيما ما يعيق ميزانية التسيير والحد من التدخلات والمُحاوَرين عند كل مراجعة.

صــــوت المتقــــاعد: في مؤلفك حول «إصلاح التقاعد» الصادر في عام 2010، تعطي أمثلة عديدة عن التجربة الفرنسية في هذا الموضوع، هل تعتقد أن نموذج الإصلاح الفرنسي للتقاعد لا زال ملائما لتطبيقه على المغرب، أم أن هناك خصوصيات محلية يجب مراعاتها؟

عارف م. صادق – لا يتعلق الأمر باتباع نموذج بلد أو آخر. في الواقع الأمر مرتبط برؤية حول كيفية إدارة البلدان المختلفة لأنظمة المعاشات التقاعدية وتقييم الآثار.

إذا أخذنا تجربة فرنسا كمثال (وليس كنموذج) ، فسنرى أن هذا البلد قام بعدة إصلاحات في الخمسين سنة الماضية. وهذه الحالة توضح جيدًا ما حدث في عدة دول أخرى.

منذ إحداث أول نظام تقاعد عام حقيقي بفرنسا عام 1945 وإنشاء الضمان الاجتماعي (الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي الخاص بنا تم إنشاؤه في عام 1959) ، رأينا أنه في في عام 1949 بدأ إنشاء صناديق مهنية للتقاعد مستقلة (في المغرب لم نصل إلى ذلك بعد)

ثم جاء إصلاح «بولان» (Réforme Boulin) في عام 1971 لتقاسم ثمار النمو بشكل أفضل، وهو الإصلاح الذي تمثل في رفع مستوى المعاشات بشكل كبير، بحيث للاستفادة من التقاعد الكامل بمعدل كامل عند سن 65، انتقلت النسبة من 40 إلى 50٪ من دخل أفضل 10 سنوات، لكن فترة التأمين المطلوبة للحصول على ذلك انتقلت من 30 إلى 37.5 سنة. وهذا الإصلاح تبعه في عام 1972 المعاش التكميلي الذي أصبح إلزاميا.

يتكون التقاعد الإجباري للموظفين الآن من عنصرين؛ التقاعد الأساسي والتقاعد التكميلي. في عام 1982 ، تقرر في عهد فرانسوا ميتران تحديد سن التقاعد في 60 عاما بدل 65.

ومنذ ذلك الحين ، حان الوقت لإجراء إصلاحات حقيقية تهدف في المقام الأول إلى تحقيق التوازن المالي للأنظمة المختلفة.

في عام 1991 ، قدّم الكتاب الأبيض الذي أعده ميشيل روكار، رئيس الوزراء الفرنسي آنذاك، تصورًا لأفق 2040 لمجموع أنظمة التقاعد، وكان ذلك بمثابة صدمة، بحيث كان ينبغي زيادة تدريجية في معدل المساهمة لضمان التوازن. ثم جاءت الأزمة الأولى، فانخفضت كتلة الأجور في 1993. وكانت سابقة أولى في فرنسا، وفي المغرب أيضًا، بسبب إغلاق عدة مصانع.

النتيجة لذلك، أنه تم لأول مرة، تغيير القواعد التي تهدف إلى تحسين المعاشات، إذ تقرر خفض المستوى النسبي للمعاشات، وتمديد سن الإحالة على التقاعد، وبدلاً من العمل 37 سنة ونصف كان لا بد من تمديد المدة إلى 40 سنة في 2003 ، وجرى مقارنة المعاش على أساس معيار الأسعار ، وليس على الأجور.

ثم جاء الجدل حول اعتماد نظام الرسملة للتخلي عن نظام التوزيع أو المواكبة.

من جهته، لفت الاتحاد الأوروبي انتباه الدول الأعضاء إلى آفاق التقاعد الصعبة منذ السبعينيات ، ودعا إلى تمديد مدة العمل، ورفع معدلات التشغيل، وتطوير الأنظمة التكميلية.

ومع إنشاء «المجلس التوجيهي للتقاعد» في عام 2020 ، ظهرت عدة دراسات مكنت من توضيح الأمور للسلطات العمومية والشركاء الاجتماعيين والرأي العام .

وبينما جرت بين عامي 2003 و 2008 مناقشات حول الأنظمة الخاصة، تم في عام 2010 تجاوز طابوهات التقاعد في سن الستين. أما الأزمة المالية والاقتصادية التي شهدها عام 2008 فقد حولت الآمال في تقويم أنظمة المعاشات إلى أوهام، وتوالت التساؤلات عن سن التقاعد وفترة المساهمة، وانتقلت مدة مساهمة المنخرط من 62 عاما ، 65 إلى، ثم إلى 67 عاما.

ومنذ عام 2015، تم الانتقال إلى نظام التقاعد الموحد (Agirc-Arrco)، وأصبحت العديد من أنظمة التقاعد القطاعية مهددة. وإلى اليوم لم يتم إغلاق هذا الملف، ويبدو أن جائحة «كوفيد 19» هي التي هدّأت نسبيا من احتجاجات الشارع في عموم فرنسا.

لن يكون هناك شيء كافٍ لتفادي الهاوية، لن تعدو المسألة الحد من العجز. وسيدفع الشركاء الاجتماعيون الاقتصاديون الثمن قبل اللجوء إلى جيوب دافعي الضرائب! وبما أن الموظفين من دافعي الضرائب، فإنهم سيدفعون ضِعف الثمن قبل أن يتمكنوا يومًا ما من المطالبة بتقاعدهم. وهكذا سيدفعون بيد ما حصلوا عليه باليد الأخرى. وإذا لم تكن الدولة قادرة أو لم تستطع خلق ثروة، فسيدفع الثمن كل من المتقاعد والموظف النشط عن طريق التضخم. هذا هو قانون التوازن.

وخلاصة القول، هناك سببان أساسيان دفعا الدول إلى تعديل شروط الإحالة على التقاعد، من ناحية؛ كان مستوى النمو الاقتصادي مصحوبًا بالضغوط المطلبية للأجراء والأطر للحصول على بعض الامتيازات. وفي وقت لاحق بدأت تظهر إشارات الاستغاثة مع بداية عدم التوازن في تمويل نظم التقاعد والثقوب السوداء مثل تلك الخاصة بالضمان الاجتماعي في فرنسا والتي تصدرت أخبارها عناوين الصحف.

صــــوت المتقــــاعد: كخبير في الموضوع، وكمتقاعد، كيف ترى صورة المتقاعد المغربي اليوم، كيف ينظر إليه المجتـمع، ما حاجياته الأكثر إلحاحا، كيف هي نفسيته، ما هي معاناته اليومية ؟

عارف م. صادق – صراحة لست خبيرا بأي حال من الأحوال في هذا المجال، لا أقول ذلك من باب التواضع، ولكن هذه هي الحقيقة، أنا موضوعي ، لكن «لن تنتهي من التعلم أبدًا». من المؤكد أنني بدأت في الأمر عندما لم يكن هناك أكثر من 20 خريجا كل سنة من المعهد الذي قام بتدريب خبراء اكتواريين، وهي مهنة المتخصصين في التأمينات والمعاشات ، ولكن منذ ذلك الحين، ومن خلال عملي في التدبير المالي، واجهت في الميدان مشاكل التقاعد أولاً كإطار إداري، ثم بعد ذلك كموظف بسيط ساهم طوال حياته المهنية لينتهي بي المطاف في النهاية إلى المطالبة بحقوقي لدى القضاء.

إذاً، يمكنني التحدث عن تجربتي الشخصية، لكني أفضل تركها للمتخصصين في استقصاء الآراء والصحفيين لاستجواب المعنيين بشكل أفضل..

غير أنني أود أن أسرد إحدى مداخلتي الشخصية ذات يوم في الصخيرات خلال ندوة نظمها الصندوق المغربي للتقاعد الذي دعاني إليها. وحينها كان ولعلو وزيرا للمالية والذي وجهت له الدعوة إلى جانب مديري صناديق التقاعد وممثلي منظمات وشركات التأمين والبنك الدولي ومنظمة العمل الدولية وأكاديميين كبار من باريس والمغرب.

بعد العروض، جاءت المناقشات، وكنتُ آخر من أخذ الميكروفون. وكانت مهمة صعبة لشخص يتحدث في النهاية حيث لا يوجد ما يُضاف. ثم قلت ما يلي بشكل عفوي : «لقد ساهمتُ كمنخرط منذ ما يقرب من 35 عامًا ، فأنا أنتمي إلى الجيل الأول من الأطر المغربية الذين وصلوا إلى أبواب صناديق التقاعد، بالكاد بدأتُ في تذوق المتعة من تقاعدي حتى بدأوا يقولون إن «الصناديق فارغة». اليوم الحمد لله أستمر مثل الآخرين في تلقي المعاش رغم كل شيء، والإصلاحات التي بدأت لا زالت حتى يومنا هذا، والمهمة لم تنته بعد كما في أي مكان آخر في العالم.

صــــوت المتقــــاعد: عدد كبير من المتقاعدين مقبل على مرحلة الشيخوخة، وبقدر ما نهتم بالحديث عن المتقاعدين، نتجاهل هذه المرحلة من عمر الإنسان وهي مرحلة الشيخوخة، هل تعتقد أن هناك سياسة عمومية تُعنى بالمسنين المغاربة ؟

عارف م. صادق – لا ، لا أعتقد ذلك على الإطلاق. الدولة لديها انشغالات أخرى ، أما التركيبة الديموغرافية ومحدودية الموارد فذلك بعيد عن أولوياتها.

وإذا لم يتقو النشاط الجمعوي ، فمن المحتمل جدًا ألا يتمكن المتقاعدون من الاستفادة من مكتسباتهم، يمكن فقط أخذ مثال «كنوبس» كمثال.

للحصول على فكرة عما يحدث، لا يحتاج أي صحفي سوى الوقوف عند باب أحد المكاتب التي تتلقى ملفات التعويض عن المرض أو تلقي الشكاوى حول الملفات الطبية. ويمكن لي أن أقدم حالة امرأة مسنة ومريضة ظلت تتجول، بدون جدوى، بين ثلاثة مكاتب تقع في ثلاث مناطق مختلفة بالدار البيضاء بعد وصولها إليها عبر القطار رغم كل المخاطر الحالية جراء تفشي وباء «كوفيد 19».

كانت تبحث عن ملفاتها التي لم تحظ بمتابعة لائقة ، ورُفض بعضها من دون إشعارها بذلك، فضلا عن أنها تعرضت لمعاملة غير إنسانية ، وحتى مُهينة من موظفين نسوا أننا نحن الذين ندفع أجورهم لرعايتنا. هذه هي البيئة بأكملها الاقتصادية والاجتماعية التي يجب أن نأمل في تطويرها وتحسينها ذات يوم في بلدنا لنكون قادرين على الاستمتاع بتقاعد هادئ.

لذا ، لا مجال للحديث عن أي «سياسة» حكومية (إنها عبارة ضخمة) مكرسة لكبار السن ، والمتقاعدون يتطلعون إلى تحسين جودة خدمات الهيئات الحالية التي تلتهم من الموارد المالية والبشرية الضخمة حتى الآن والمأخوذة من موارد التقاعد لضمان عملها في زمن الإدارة الرقمية مقارنة بفترة عملنا التي لم نكن حينها نتوفر على آلة تصوير أو هاتف نقال ولم يكن أنترنيت أو حاسوب صغير . والأسوأ من ذلك ، في المكتب الوطني حيث اشتغلت وأنا فخور به ، حيث كان لدينا القليل من الموارد، وأفضلُنا ربما لم يكن حاصلًا على الإجازة الجامعية.

صــــوت المتقــــاعد: ما هي رسالتك إلى المتقاعدين المغاربة، ونصيحتك لمن لا يزالون يمارسون نشاطهم اليوم، كيف يمكنهم أن يتهيأوا لمرحلة التقاعد ؟

عارف م. صادق – لمتقاعدي اليوم، أتمنى لهم على وجه الخصوص صحة جيدة حتى يتمكنوا من الاستمتاع بشكل أفضل بالقليل الذي حصلوا عليه ، اليوم أفضل من الغد. أتمنى أن يستمتعوا قدر الإمكان بالسعادة التي يمكنهم الحصول عليها بمرافقة أحفادهم. أن يكرسوا بعض وقتهم للعمل التطوعي والعمل الجمعوي دون التخلي عن المشي والتمارين اليومية جسديا وروحيا.

بالنسبة لأولئك الذين ما زالوا يعملون اليوم ، كيف يجب أن يستعدوا للتقاعد؟

يجب أن يكونوا قادرين أولاً على حماية مكتسباتهم، وتطوير وضعهم الحالي قدر الإمكان لتحسين مدخراتهم ونقاط التقاعد.

العدد 6 – 16/ 31 أكتوبر 2020

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى