إدريس المشطاني.. الأدوار الجديدة لمتقاعد اليوم

أصبح المتقاعد يلعب أدوارا مهمة ووازنة في محيطه وفي المجتمع

هذا سؤال عريض الذي قد يتساءله الكثيرون «ما هي الأدوار الجديدة للكبار» Seniors» وهذا يحيلنا إلى ربط هذا السؤال والتساؤل في نفس الآن بالتطور الكبير الذي عرفه التقاعد والمتقاعد عبر العقود.

هذا التطور وجب وصفه بالإيجابي إذ الأشواط التي انتقل منها « الكبير» تعتبر حاسمة. فمن فئة قليلة جداً تابعة إلى متقاعدين أجانب في وقت الحماية الفرنسية على البلاد إلى هياكل مغربية محضة وقوانين ونصوص وطنية ومسؤولين مغاربة وأهداف واستراتيجيات واستشرافات للحاضر والمستقبل.

ففي إطار هذه التحولات العميقة على مر العقود أصبح المتقاعد يلعب أدوارا مهمة ووازنة في محيطه وفي المجتمع المغربي قاطبة.

سوف نقتصر في هذا المقال الصحفي على بعض الأدوار الرئيسية على أن يبقى الموضوع مفتوحا قصد إغنائه في القريب بأقلام أخرى وأفكار جديدة تصب في نفس الخانة.

من الأدوار الجديدة التي يلعبها المتقاعد نذكر منها:

المستويات الاقتصادية، الاجتماعية، المدنية، الإنسانية والتواصلية.

متقاعد اليوم قاطرة للاقتصاد الوطني

أصبح المتقاعد يشكل قوة اقتصادية وذلك يتجلى في مساهماته العديدة من حيث الاستهلاك إذ اعتباراً لسنه «فوق الستين» فإنه لا مجال لديه للادخار لأن هذا كان يوم كان نشيطا. أما الآن فما يناهز 90% من المعاش يغطي المشتريات من بضائع وخدمات كالنقل والسياحة والرياضة وغيرها.

من جهة أخرى فبحكم أن الحد الأدنى للمعاش بعد تأسيسه قانونيا ما بين 1000 درهم و 1500 درهم شهريا واعتبارا كذلك أن الحد الأدنى للأجور في الإدارة العمومية 3000 درهم وفي القطاع الخاص 2900 درهم وأن المعاش يكون في مستوى 70 إلى 80% من الحد الأدنى للأجور فإن عددا لا يستهان به من المتقاعدين الحاليين يعتبرون اقتصاديا وإحصائيا من الطبقة الوسطى والتي هي قاطرة التنمية والاقتصاد وأن جلالة الملك لطالما ركز خطاباته على الدور المحوري الذي تلعبه في المستوى الاقتصادي والتنموي.

على صعيد أخر فإن كل انتعاش للمعاش سواء على مستوى تقييم المعاشات والزيادات فيها أو على مستوى تخفيف العبء الضريبي فمن شأنه أن يساهم إيجابيا في الزيادة في الاستهلاك وقضاء الحاجات التي لايقدر على شرائها أو اقتنائها المتقاعد بدون هذه «التوازنات» المنطقية والعملية.

وفي هذا المضمار، تقدمت الفدرالية بمنظورها ورؤيتها للنموذج الاقتصادي الجديد في إطار مذكرة سلمتها إلى اللجنة الخاصة بهذا المشروع الهام.

متقاعد اليوم اجتـماعي بطبعه

كان المتقاعدون الأوائل في الخمسينات والستينات جلهم من العمال البسطاء يعملون في أعمال يدوية.

الآن أصبحت فئة المتقاعدين تضم جميع الشرائح السوسيو- اقتصادية : عاملين وموظفين و أعضاء تقنيين وأطر متوسطة وأطر عليا ومدراء ورؤساء مدراء عامِّين ووزراء ومن جميع القطاعات الفلاحية والصناعية والخدماتية العمومية منها والخصوصية وأصبح للمتقاعد وزن خاص ذلك أن المتقاعد لما يذهب إلى المعاش (و أفضل كلمة يذهب على يُحال) إذ فيها وقع إيجابي وليس سلبيا يقبل على فترة جديدة ويستعد لها غالبا وهو يفتخر بما قدمه من خدمات جمة إبان نشاطه كما أنه كله نشاط لاستشراف المستقبل والاستعداد لخوضه. فاجتماعيا بعد أن كانت المقارنة بين النشطاء والمتقاعدين وأن المشكلة في الإحالة على المعاش أصبح الكلام على من يحظى بمعاش حين تقاعده والمسكين الذي لا يتقاضى أي شيء بعد عقود من الكد الاجتهاد؛ فنظرة المجتمع تغيرت وأصبحنا في كل أسرة أو عائلة نجد متقاعدا أو اثنين يتجاذبان أطراف الحديث عن ظروف التقاعد وعن المعاش وعن الضريبة وعن السعادة والهناء بعد العمل والمسؤولية.

لذلك تَكَوَّنَ لدى المجتمع رأي عام حول المتقاعد، يتأثر بما يسمعه في داخل البلاد كما ينجذب إلى أخبار المتقاعدين في دول أخرى تسعى إلى التغيير والإصلاح.

وتجدر الإشارة إلى أنه من حيث العدد فإن فئة المتقاعدين تشكل اليوم ما يناهز 8 في المائة وغدا سوف تصل إلى 10 في المائة من الساكنة وإنها لبشرى عظيمة هذا القرار الصائب الذي أخذته الدولة المغربية المتعلق بإرساء التغطية الاجتماعية الشاملة في الخمس سنوات المقبلة.

متقاعد اليوم يجد نفسه في المجتـمع المدني

التجأ منذ مطلع الألفية الجديدة جل المتقاعدين إلى خلق إطار اجتماعي وإنساني وقانوني يمثلهم، يتكلم باسمهم ويطالب بحقوقهم منها الحفاظ على مكاسبهم وكذلك تحسين ظروف عيشهم، وكان الاختيار تجاه المجتمع المدني إذ التحق المتقاعد بجمعيات وفدراليات لأجل إسماع صوتهولأجل التزود بمعلومات خاصة بالتقاعد والتفاعل مع متقاعدين آخرين في فضاء يغلب عليه المؤانسة والمؤازرة والمخاطبة والتضامن.

ويتضح الآن بعد ما يقرب من العشرين سنة أن القرار كان صائبا وأن الاختيار للعمل في الميدان الجمعوي هو محق بامتياز إذ الجمعية لها كيان خاص تتميز عن المؤسسة الخاصة وعن الإدارة وعن الحزب وعن النقابة وأن التأطير في أركانها يتميز بالمرونة وبالعفوية والنضال الجمعوي.

ذلك، أن المجتمع المدني بدا كأنه جهاز يتموقع بين الدائرة الخصوصية والدولة وهو بذلك أداة الذي من خلاله يمكن فهم ظواهر اجتماعية حالية وفي نفس الآن العلاقات بين الدولة والمجتمع.

ما يميز المجتمع المدني عن غيره هي إنتاجه للمقاييس والقيم وخصوصا القيم الجديدة الأنتربولوجية المتعلقة بالعمل والاستقلالية.

والدور الجديد الذي يلعبه المتقاعد الملتزم هو تنوير المجتمع والدفاع عن المواطنة الحقة، والإسهام الإيجابي في تقدم السياسات العمومية وذلك بإبداء أرائه ومواقفه والذوذ عن قناعاته والتزاماته يعض عليها بالنواجذ.

وكل مكونات المجتمع المدني مقتنعة على أن ركائز كل عمل هو القيم الإنسانية التي تسبق كل رؤية استراتيجية أو تحديد هدف أو خطة عمل.

وهذه القيم من أهدافها أن تبني منهاجا تواصليا بين المتقاعدين أفرادا وجمعيات.

متقاعد اليوم يعبر ويتواصل

من حسنات المجتمع المدني وكذا الجمعيات والفدرالية أن يكون من أهدافها الرئيسية خلق فضاء للتواصل بين المتقاعدين، هذا دور جديد أضيف في الألفية الجديدة ليبلور نموذجا جديدا من المخاطبة، وإيصال المعلومة والرأي، وتعميم الخبر على جميع شرائح المتقاعدين.

فكل جمعية لها فضاءاتها التواصلية التي تتجلى أولا في الاجتماعات الدورية لهياكلها القانونية وكذا في ممارسات صلاحياتها مع العالم الخارجي (الإدارة والصناديق والتعاضديات وغيرها).

ولمساندة هذه الفضاءات التواصلية فكَّر المتقاعد في تأسيس موقع إلكتروني لجمعيته أو فدراليته وارتأى كذلك على أن يتواصل على طريق الواتساب والبريد الإلكتروني وغيره من الوسائل الحديثة.

غير أنني وإن كنت أدافع على كل هذه الوسائل إلا أنني أخص بالتفصيل «الاجتماع» الذي يعطي فرصة «للحرارة الإنسانية»أن تعبر على تعاملها مع الآخر وهذا الالتقاء الفعلي من شأنه أن يضفي على الرسالة أسمى معاني الاعتراف بالآخر والاستماع مباشرة إلى رأيه وفكره.

ويأتي في سلم التفضيل في هذا الباب «الصحافة الورقية» ولعل بزوغ نجم جريدة «صوت المتقاعد» من شأنه أن يقوي ويعضد هذا الجانب التواصلي ويعطي فرصا عالية للمتقاعدين أن يعبروا على أصواتهم وأن يوصلوها إلى قمة ما يصبون إليه.

متقاعد اليوم سعيد بعلاقاته

مما لا مندوحة فيه، أن زمن التقاعد يظهر للمتقاعد قيمة إنسانيته ومكانته داخل أسرته أو جمعيته أو مجتمعه.

فإن كان العمل والشغل يلهيان النشيط عن الاهتمام بالصحة الجسمية والنفسية والمعنوية فإن زمن التقاعد يوفر كل الشروط للاهتمام بالفرائض الدينية الإسلامية الحنيفة وبالأكل والشرب والرياضة والسفر والاستجمام والمطالعة والفن وتقوية علاقات الصداقة والرفقة الطيبة وزيارة الأقارب وصلة الرحم.

ونسوق هنا دراسة حديثة قامت بها جامعة «هارفارد» الجامعة الأمريكية المصنفة الأولى عالميا بين كل الجامعاتالعالمية، والتي تناولت موضوع «السعادة» وشملت الآلاف من المستجوبين فكانت النتيجة أن العنصر الأول الذي يجلب السعادة والفرح هو العلاقات التي نربطها مع أفراد عائلتنا ومع أصدقائنا ورفاقنا ومع أفراد المجتمع.

والدور الجديد للمتقاعد في عصرنا الحاضر هو نسج علاقات إيجابية ومجدية تجلب الارتياح وهناء البال من شأنها أن تحفز المتقاعد على القيام بأعمال وسلوكات جديدة لم يكن للمتقاعد السالف لأن يهتم بها ويجعلها من أولوياته : من هذه الاهتمامات توجد القيم الروحية والمعنوية وتأتي على رأسها القيمة الدينية ثم من بعد ذلك قيم الحرية والعدالة والمساواة والتسامح والإخلاص.

ولعل هذه القيم النبيلة هي التي يرتكز عليها العمل في الفدرالية.

خلاصة القول أن هذه الأدوار الجديدة للمتقاعد رفعت من مقام ومكانة المتقاعد الذي أصبح يشكل قوة اقتراحية وكتلة دفاعية ومحرك سوسيو اقتصادي له حضور وازن وله رؤى واضحة وأهداف جماعية يرصد لتحقيقها استراتيجيات خاصة ووسائل نوعية ناجعة من شأنها أن تأتي بالتغيير وبالجديد في المستقبل حتى يسلم متقاعد اليوم قصب السبق إلى متقاعد الغد وذلك في أحسن الظروف وأجملها.

ومن الأدوار المستقبلية التي يستحسن أن يركز عليها المتقاعد هي التحلي أكثر فأكثر بروح النضالية، وتدبير مبدأ التشاركية والإسهام في الأوراش الكبرى بنفس استباقي ومثابرة متجددة.

* رئيس جمعية الأطر المتقاعدين للمهنة البترولية

ومشرف على لجنة الدراسات والتشريعات بفاناريم FANAREM

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى